التطور الأبرز في الأيام الأخيرة تمثل باتفاق بين الجانبين على احالة جباية الضرائب على المحروقات الى وزارة المالية الفلسطينية بدل مما كان متبعا على مدى 24 عاما، حيث كانت اسرائيل تجبيها نيابة عن السلطة الوطنية وتحولها الى الخزينة الفلسطينية مع باقي عائدات المقاصة نهاية كل شهر.
التطور الأخير، لم يشكل حلا للأزمة، إذ حرر فقط حوالي 200 مليون شيقل من المقاصة الشهرية، تحولت الى جباية محلية، وهي توازي تقريبا، معدل الاقتراض الشهري للحكومة الفلسطينية من البنوك على مدى الأشهر الخمسة الأولى من الأزمة، وتوقفت عن اقراضها لوصول مديونيتها البنوك سقفا يشكل خطورة على الجهاز المصرفي الفلسطيني.
من الناحية المالية الصرفة، باحتجاز عائدات المقاصة، بمعدل 700 مليون شيقل شهريا، فقدت الحكومة ثلثي ايراداتها، وبات مطلوبا من وزارة المالية ادارة الثلث المتبقي، الذي يتأتى من الجباية المحلية.
حتى نهاية شهر حزيران الماضي، بحسب وكيل وزارة المالية فريد غنام، تكون لدى الجانب الإسرائيلي 3.5 مليار شيقل عائدات مقاصة مستحقة للجانب الفلسطيني، وبطرح الخصومات المتعلقة بالمياه، والكهرباء، والصرف الصحي والتحويلات الطبية، حسب الارقام التي طرحها الجانب الاسرائيلي في جلسات المقاصة، ويبلغ مجموعها حتى نهاية حزيران نحو 681 مليون شيقل، وهي اصلا خصومات يتحفظ عليها الجانب الفلسطيني.
بعد قرار الخصم المتعلق بالشهداء والجرحى والأسرى (41.8 مليون شيقل شهريا)، تجمع في هذا البند على مدى خمسة اشهر حوالي 209 ملايين شيقل، بالتالي صار في الحوالة لدى الجانب الإسرائيلي بعد خصم هذا المبلغ، وهو غير مقر من قبل الحكومة الفلسطينية ولم تقبل بخصمه، مبلغ 2.618 مليار شيقل.
بإضافة مقاصة شهري تموز وآب، يصبح المبلغ المتجمع لدى الجانب الإسرائيلي، والمستحق للجانب الفلسطيني يتجاوز 5.5 مليار شيقل قبل الخصومات، و4.2 مليار شيقل بعد الخصومات، بما يشمل حوالي 292 مليون شيقل مجموع الخصومات المتراكمة بناء على الاجراء الإسرائيلي بخصم مدفوعات عوائل الشهداء والجرحى والاسرى.
وبرفض استلام الحوالات الاسرائيلية للمقاصة منقوصة، لم يبق في يد الحكومة الفلسطينية سوى الجباية المحلية ومقدارها 300 – 400 مليون شيقل شهريا، تغطي اقل من ثلث النفقات العامة البالغة حوالي 1.2 مليار شيقل شهريا، وكبديل لعائدات المقاصة، وإحجام الدول المانحة عن تقديم مساعدات تعوض هذه العائدات او جزءاً منها، سواء دول صديقة أو دول عربية، لجأت وزارة المالية إلى تكوين مجمع للبنوك برعاية وزارة المالية وسلطة النقد، يأخذ على مسؤوليته منح قروض للسلطة خلال فترة الأزمة حسب قدرته بضمان وجود هذه المبالغ المستحقة للشعب الفلسطيني لدى الجانب الإسرائيلي، والمحتجزة خلال الفترة الحالية.
حاجة الحكومة للاقتراض من البنوك قدر بـ480 مليون دولار حتى نهاية تموز، تم توزيعها بين البنوك، كل حسب قدرته على الاقراض، وهي قروض أعطيت للسلطة حسب المفهوم التجاري، بأسعار فائدة وفقا للأسعار المطبقة في أي قرض عادي للحكومة، اما المبلغ الذي حصلت عليه الحكومة فعلا من هذه القروض حتى نهاية تموز فقد بلغ 284 مليون دولار فقط (حوالي مليار شيقل).
قال غنام إن الحكومة حصلت على قرض من قطر بقيمة 250 مليون دولار، إضافة إلى 50 مليونا عبارة عن منحة، وقد تم توقيع اتفاق مع قطر بخصوص الـ250 مليونا، وكان من ضمن شروطه خضوع القرض لأسعار الفائدة الاعتيادية المطبقة في العالم ودفعها على 10 أقساط وليس دفعة واحدة، بمعنى 25 مليون دولار كل شهر، اما المنحة (50 مليون دولار) فقد اتفق على تقسيمها على ثلاثة أقساط: 20 مليون دولار، و15 مليون دولار، و15 مليون دولار.
في حزيران، تلقت الحكومة أول قسطين من القرض والمنحة القطريتين: قسط القرض 25 مليون دولار منقوصا منه العمولة وهي عبارة عن حوالي 2.5 مليون دولار، مضافا إليها 20 مليونا قسط المنحة. ليصبح مجموع ما حوّل الى الحكومة من قطر في حزيران 42.5 مليون دولار.
وبهذا، يصبح الدخل الشهري المتجمع للحكومة الفلسطينية للفترة آذار – حزيران: معدل 270 مليون شيقل جباية محلية، و200 مليون قروض من البنوك، مع قليل من المساعدات الخارجية كمبلغ 45 مليون دولار لمرة واحدة من العراق، ومساهمة السعودية والجزائر في شبكة الامان العربية، اما بعد حزيران، فلم يتبق سوى الجباية المحلية، التي انخفضت الى ما دون 300 مليون شيقل شهريا، اضافة الى قسطي القرض والمنحة القطريين.
منذ بدء الازمة، وضعت وزارة المالية مشروع موازنة 2019 جانبا، وبدأت بتنفيذ خطة نقدية (موازنة طوارئ) للتعامل مع ازمة المقاصة، فخفضت الانفاق بنسبة 45%، وكان جل التخفيض في هذه النفقات بنسبة 40% رواتب، مقابل تخفيض في نفقات جارية أخرى بنسبة 44%، فيما توقفت عن تمويل النفقات الرأسمالية لمشاريع جديدة وابقت على نفقات محدودة للغاية في هذا البند لمشاريع تحت التنفيذ، في حين ارتفعت مديونية الحكومة لموردي السلع والخدمات من القطاع الخاص، مع الحفاظ على دفعات شهرية لهم بمعدل حوالي 40 مليون شيقل.
فيما يتعلق بالرواتب، وبحسب بيانات وزارة المالية، فإن فاتورة الرواتب وأشباه الرواتب تبلغ حوالي 850 مليون شيقل شهريا، والرواتب الخاصة بالأشهر الخمسة (شباط – حزيران)، وصلت قيمتها حوالي 4.219 مليار شيقل، دفع منها ما يزيد على 3 مليارات شيقل، وفق معادلة 50-60% بحد ادنى 2000 شيقل وحد أقصى 10 آلاف شيقل، بالتالي فإن متأخرات الرواتب المستحقة للموظفين حتى نهاية حزيران بلغت حوالي 1.2 مليار شيقل.
في التفاصيل، فإن متوسط ما صرفته الحكومة من فاتورة الرواتب بلغ حوالي 600 مليون شيقل شهريا، ليبقى المستحق للموظفين حوالي 250 مليون شيقل عن كل شهر من اشهر الازمة.
صلاحية الخطة النقدية انتهت بنهاية تموز، ومنذ ذلك التاريخ لم تعد الأدوات المالية الصرفة التي اتبعتها وزارة المالية في التعامل مع الأزمة صالحة، اذ لم تعد البنوك قادرة على اقراض الحكومة، وبالتالي فقدت حوالي 200 مليون شيقل اخرى، ودخلت الازمة في مرحلة تتطلب مخرجا سياسيا بعيدا عن الاجراءات المالية الصرفة.
الموقف الحاسم للقيادة في رفض الاجراء الاسرائيلي بخصم ما يوازي مدفوعات عوائل الشهداء والجرحى والاسرى، مهما كلف الثمن، والاحتقان المتراكم في الشارع الفلسطيني والتفافه حول موقف قيادته، دفع الاجهزة الإسرائيلية الى اشعال الضوء الأحمر في وجه رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو، وسرعان ما بدأت اسرائيل بالبحث عن سلم للنزول عن الشجرة، فعرضت عدة مقترحات، مباشرة تارة وعبر وسطاء دوليين تارة أخرى، لكنها جوبهت برفض القيادة الفلسطينية لمخاطرها السياسية والقانونية.
في الفترة الاخيرة، وفي مسعى لاستغلال الأزمة لإحداث تغييرات في طبيعة العلاقة مع اسرائيل، ولو كانت صغيرة، اقترح الجانب الفلسطيني فصل ضرائب المحروقات عن المقاصة، وهو ما وافقت عليه اسرائيل اخيرا تحت ضغط المخاوف “الأمنية”.
فما الذي يعنيه هذا التطور من الناحية المالية؟
تبلغ قيمة الجمارك على المحروقات الواردة للأراضي الفلسطينية حوالي 200-250 مليون شيقل شهريا، وهذه الإيرادات تحولت اعتبارا من شهر آب الجاري الى جباية تحصلها وزارة المالية الفلسطينية من محطات الوقود مباشرة، دون دخولها في “طريق التفافي” وعودتها الى الخزينة مع المقاصة، وبذلك تنخفض حصة المقاصة من الايرادات الفلسطينية من 60% الى اقل من 40%، اضافة الى سقوط عمولة الـ3% التي تأخذها اسرائيل بدل جباية.
وبموافقة اسرائيل على هذا الاجراء بأثر رجعي اعتبارا من مطلع عام 2019، فان الحكومة استرجعت حوالي ملياري شيقل من المقاصة المحتجزة، ما سيمكنها من دفع 60% من راتب شهر آب الجاري، وما تبقى من راتب شهر شباط، أي بما يوازي مليار شيقل، اضافة الى تسديد بعض المتأخرات الاخرى كجزء من مستحقات القطاع الخاص، ورفع نسبة الضخ النقدي في الوزارات والمؤسسات العامة.
وبتحرير الضرائب على المحروقات، يصبح ما بيد الحكومة من سيولة شهرية: 500 – 600 مليون شيقل جباية محلية، و45 مليون دولار (حوالي 160 مليون شيقل) قسطي القرض والمنحة القطريين، تنخفض بعد شهرين الى 25 مليون دولار فقط، اضافة الى ما قد يأتي من مساعدات خارجية، وهو مبلغ لا يحل الازمة بشكل كامل، وانما يمكن الحكومة من الاستمرار في خطتها النقدية (موازنة الطوارئ)، التي كان يفترض انها انتهت بنهاية تموز، بنفس وتيرة الصرف للموظفين (بنسبة 50-60%)، والصرف بالحد الادنى في باقي بنود الانفاق، لأشهر اخرى قادمة، بما يعزز من قدرة القيادة على الصمود والتمسك بموقفها الى حين ايجاد حل جذري للازمة.