العامةشرفة

77 عاما على قرار التقسيم: من ثورة البراق 1929 حتى انتفاضة يافا 1933

استمرت الحكومة البريطانية في دعمها للمشروع الصهيوني، رغم نشوب انتفاضة عام ١٩٣٣، حيث إن المندوب السامي السير “آرثر واكهوب” كان داعمًا كبيرًا للحركة الصهيونية، وازدادت الهجرة اليهودية إلى فلسطين في عهده زيادة قياسية. فكان عدد المهاجرين عام ١٩٣٢ عشرين ألفًا، وفي سنة ١٩٣٣ ثلاثين ألفًا، وفي سنة ١٩٣٤ أربعين ألفًا وفي سنة ١٩٣٥ ستين ألفًا، وهذه أعداد مهولة نسبة إلى الهجرات في الأعوام السابقة، بحيث ارتفع عدد اليهود في فلسطين من ١٧٠ ألفًا عام ١٩٣١ إلى ٤٠٠ ألف في أواخر عام ١٩٣٦، رغم كل الاحتجاجات العربية ضد هذه الهجرة المطردة بعد صعود الحزب النازي إلى الحكم عام ١٩٣٣ في ألمانيا. هذه الهجرات أسهمت، بشكل كبير، في تدفق أصحاب رؤوس أموال يهودية إلى فلسطين، والذين راحوا يستثمرون في مشاريع صناعية واقتصادية تعود بالفائدة على اليهود في فلسطين. ليس هذا فحسب، بل إن الوكالة اليهودية صارت تطالب السلطات البريطانية بالسماح لها بإحضار عمالة يهودية من بولندا وغيرها من أجل العمل في المشاريع المزمع تأسيسها لنقص في العمالة اليهودية، رغم البطالة الشديدة بين العمال العرب في فلسطين.

في المقابل، استمرت السلطات بتسهيل نقل ملكية الأراضي إلى اليهود الذين ازدادت ملكيتهم للأرض من ٥٤٤ ألف دونم عام ١٩٢٥ إلى ١،٣٢٢ ألف دونم عام ١٩٣٦، وأصبح عدد المستعمرات الزراعية ٢.٣ مستعمرات، يعمل فيها حوالي ١٠٠ ألف يهودي. وازدادت مساحات بيارات البرتقال التي أصبحت في حوزة اليهود من ١٠٠ ألف دونم عام ١٩٣١ إلى ١٥٠ ألفًا عام ١٩٣٥. معطى آخر يظهر عملية نقل الأراضي وهو عدد صفقات بيع الأراضي الذي كان عام ١٩٣٣ وهو ٦٧٣ صفقة أغلبها أراضٍ باعها العرب لليهود، وكانت أغلب هذه الصفقات لأراضٍ لم تتعد مساحتها المائة دونم. هذا العدد أصبح ١،١٧٨ صفقة في العام ١٩٣٤، منها ١،١١٦ صفقة كل منها أقل من مائة دونم. وهكذا أصبح البائعون لا يملكون مصدر رزق، مما أدّى بهم إلى مقاومة أوامر الإخلاء، وأصبحت الصدامات مع الشرطة حتميّة في كل مرة يجبرون فيها على ترك الأراضي التي كانوا يعتاشون منها.

بخسارة الفلاحين لمصدر رزقهم، صاروا يبحثون عن عمل في المصانع والورش في المدن مثل حيفا وغيرها، وهنا كانت السيطرة لليهود على المصانع التي أنشأوها بواسطة رؤوس الأموال القادمة من وراء البحار، ودعم ورعاية حكومة بريطانيا. حيث تأسست ٤،١٥٧ منشأة بين الأعوام ١٩٢٠ – ١٩٣٦، ثلثها تقريبًا كانت صناعية، والباقي منشآت صناعة يدوية. وكان العمال اليهود منظمين في نقابة العمال الصهيونية “الهستدروت”، والتي كانت تحافظ على حقوقهم من ناحية، وعلى مقاطعة الأيدي العاملة العربية من ناحية أخرى، مما أدّى إلى استفحال البطالة العربية، وتسبب بوقوع حوادث مصدرها عدم السماح للعرب في العمل بمنشآت يهودية. وعلى سبيل المثال، قامت الحكومة سنة ١٩٣٦، بالتعاقد مع مقاول يهودي لبناء ثلاث مدارس في يافا العربية، وهذا المقاول رفض تشغيل عمالٍ عرب، فقام هؤلاء بتشكيل حامية عربية لمنع اليهود من الوصول إلى عملهم. حوادث مثل هذه كانت تؤجج من الغليان العربي ضد العمالة الصهيونية ومؤسساتها.

من ناحية أخرى، لم يكتفِ الصهاينة بدعم ورعاية وحماية المندوب السامي وأذرعه الأمنية، بل قاموا بتأسيس جيشهم الخاص بهم منذ بداية عشرينيات القرن الماضي، الذي كان سبب تأسيسه هو الاعتداء على الجيران العرب الذين لم يقبلوا بالمستعمرات الصهيونية الناشئة، والادعاء بأن الهدف الرئيسي هو مهمة حراسة هذه المستعمرات. وهكذا تنظم ما سمي بحراس المستعمرات تحت مظلة منظمة واحدة دعيت بالهاجاناة، والتي وصل عدد أفرادها في منتصف الثلاثينات إلى أكثر من عشرة آلاف مقاتل تحت السلاح، وحوالي أربعين ألفًا من قوات الاحتياط. كل هذا تمّ وتطور تحت سمع وبصر المؤسسة البريطانية الحاكمة، والتي قبلت عددًا كبيرًا من رجالات الهاجاناه في صفوف الشرطة، وبذلك شرعنت أسلحتهم التي صاروا يحملونها علنًا، ويستعملونها ضد السكان العرب من أجل تنفيذ مشاريع الوكالة الصهيونية. أمّا شحنات الأسلحة التي كانت تصل للهاجاناة، فقد كانت السلطات تغض النظر عنها، حتى وإن تم كشف أمرها، كما حدث مع شحنة الأسلحة الضخمة التي قدمت من بلجيكا إلى ميناء يافا في براميل الإسمنت في شهر تشرين أول/ أكتوبر ١٩٣٥، مما أدى إلى استفزاز العرب وإعلانهم الإضراب العام احتجاجًا على هذا الأمر.

استمرار الحكومة البريطانية بالاستهتار من العرب ومطالبهم، وإعلان مسؤوليها في أكثر من مناسبة عن تأييدهم ودعمهم للمشروع الصهيوني، وعدم تحقيق أي مطلب عربي، شعبيًا كان أو عن طريق الأحزاب العربية، وكذلك الاستفزاز الذي مارسته القيادات الصهيونية، والتي استمرت في تصريحاتها النارية ضد العرب، ومن أجل بناء الوطن القومي اليهودي على أرض فلسطين، بالإضافة لكل ما تقدم أعلاه، كل هذه العوامل أدّت إلى إشعال الثورة العربية الكبرى، والتي استمرت لمدة ثلاث سنوات بين الأعوام ١٩٣٦ و١٩٣٩.

تأسيس العصبة القسّامية

قدم الشيخ عز الدين القسام إلى فلسطين عام ١٩٢١، واختار مدينة حيفا ليعيش فيها، بعد أن كان قد ناضل ضد الاستعمار الفرنسي في سوريا، وصدر بحقه حكم الإعدام بعد مشاركته الفعلية في ثورة “الحفّة” في جبال صهيون، التي قادها مع عمر البيطار. بعد سقوط الثورة في حزيران / يونيو ١٩٢١، اضطرّ الشيخ القسّام إلى النزوح إلى شمال فلسطين بعد أن مكث فترة قصيرة في بيروت، بسبب حكم الإعدام الغيابي ضده.

خلال فترة إمامته لجامع الاستقلال، كان الشيخ القسام يحذّر المصلين من التساهل مع الهجرة اليهودية التي تحتل البلاد، والقادمة إلى فلسطين بمساعدة ودعم المحتل البريطاني، ومن ثمّ كان يدعوهم إلى الجهاد لمنع الصهيونية من تحقيق مآربها في بناء وطن قومي في فلسطين. ومع هذا كلّه كان ينتقد الظواهر السلبية دينيًا ووطنيًا، كدعوته إلى تحويل زينة الجوامع إلى أسلحة تستعمل في النضال ضد الاستعمار، ودعوته المسلمين إلى تأجيل الحج وتحويل نفقاته إلى شراء الأسلحة. وكان يدعو إلى عدم الثقة بالإنجليز من منطلق أن “من جرّب المجرّب فهو خائن”.

إلقاء القبض على أحد الثوّار الفلسطينيّين، 1938 (Getty)

كان القسام يقوم بتجنيد عناصر تنظيمه السرّي بعناية مشددّة، حيث كان يختارهم بنفسه، وكانوا غالبًا من روّاد جامع الاستقلال، أو من يتعرف عليهم شخصيًا من خلال أعضاء تنظيمه. وبهذا استطاع أن يجنّد أكثر من ٢٠٠ عضو حتى أواخر عام ١٩٣٥، جلّهم من الفلاحين الفقراء والبدو. وكانت أول خلية شكلها القسام للجهاد، في بلدة صفورية، وكانت تتألف من ستة أشخاص وهم: أحمد التوبة، وصالح أحمد طه، ومصطفى أحمد، ومحمود الغز، وعلي إبراهيم زعرور، وأبي محمد الصفوري (كما جاء على لسان الثائر طلال أبو جعب من قباطية في كتاب سجل القادة والمتطوعين في ثورة ١٩٣٦-١٩٣٩). قام أعضاء التنظيم بالتدرب على الأسلحة، وأساليب الكفاح المسلح، وكان ذلك في جبال الكرمل في حظائر صغيرة مكونة من ٣-٥ أشخاص، وكان القسام يشرف على تدريبهم وتوجيههم بنفسه.

كانت حركة القسام، أو ما اصطلح على تسميته بالعصبة القسامية، حركة مختلفة تمامًا عن الأحزاب العربية القائمة في فلسطين في ذلك الوقت، حيث إن حركته كانت تهدف إلى الوصول إلى أعلى حالات النضال ضد المستعمر البريطاني والحركة الصهيونية، حيث خلص الشيخ إلى هذه النتيجة المحتومة، فلا حاجة لتقديم الطلبات للحكومة البريطانية في محاولة لإنقاذ البلاد، لأن هذه مُقْدِمة على تأسيس “الوطن القومي اليهودي” فعليًا على الأرض بدون أن تأخذ بعين الاعتبار البيانات والاجتماعات والمؤتمرات التي تقوم بها الأحزاب العربية الناشئة. كل هذا جعل الشيخ القسام يبتعد عن ساحة العمل السياسي والخوض فيه، وفي التناحر القائم بين الهيئات الحزبية الهشة، بل جعله يهتم ببناء حركته السرّية والتعجيل في تقويتها؛ لأن الظروف العامة أصبحت خطيرة بحيث إن الصدام الحتمي مع المستعمر قادم لا محالة وبسرعة، ولذلك قرر الانتقال من حيفا المدينة إلى الريف، حيث يعيش أغلب أعضاء حركته، وحيث يمكنه الابتعاد عن قوات السلطة التي كانت تضغط وتلاحق أعضاء العصبة القسامية، خاصة بعد عملية مستعمرة “نهلال” والتي قبض على إثرها صالح أحمد طه، ومصطفى علي الأحمد، وخليل محمد العيسى (أبو إبراهيم الكبير)، وأحمد الغلاييني، وأحمد التوبة. وحكم على مصطفى الأحمد بالإعدام الذي تم تنفيذه، بينما حكم على الغلاييني بالسجن لمدة ٢٥ عامًا.

معركة أحراج يعبد ١٩٣٥

في ليلة ١٢ تشرين ثانٍ / نوفمبر ١٩٣٥، غادر الشيخ القسام حيفا، مع ٢٥ من أعضاء حركته، إلى قرى قضاء جنين لبدء دعوة الناس على نطاق واسع من أجل الاشتراك في الثورة. كانت خطة الشيخ هي الهجوم على دوائر الحكومة في حيفا، والاستيلاء على الأسلحة وتسليمها للمجاهدين، ليتم استعمالها للقيام بنشاطات مسلحة ضد المنشآت البريطانية. دخل القسام قرية كفر ذان أولًا، ومنها انطلق أعضاء العصبة إلى قرى يعبد وعرابة وفقوعة وصندله وقباطية، ليدعوا الناس إلى الانضمام للحركة وشرح أهداف الثورة. ولأن الشيخ كان معروفًا من خلال إمامته لجامع الاستقلال في حيفا، فقد كانت هناك استجابة للدعوة، ولكن البوليس السري كان يراقب تحركات جماعة القسام لمنعهم من النجاح في ثورتهم.

هذا الأمر، دفع بالشرطة البريطانية إلى إحضار قوات كبيرة من عناصرها في صباح اليوم التالي، من أجل تطويق قرى المنطقة للوصول إلى قاتل الشاويش اليهودي. في جبال قرية برقين حصل اشتباك بين الشرطة والمناضلين الفلسطينيين، مما أدى إلى استشهاد الشيخ محمد الحلمولي من حلحول في قضاء الخليل ومصرع شرطيين بريطانيين، مما دفع الشرطة إلى تكثيف نشاطها وإحضار عناصر إضافية إلى المنطقة، فأدّى هذا إلى اكتشاف الموقع الذي كان يتمرن فيه الشيخ القسام وأعضاء حركته، وذلك في قرية الشيخ زيد في أحراج يعبد، وكان هذا في الصباح الباكر ليوم الثلاثاء الموافق ١٩ تشرين ثانٍ / نوفمبر ١٩٣٥.

دفعت الشرطة بقوات كبيرة، أحضرتها من حيفا والناصرة ونابلس وبيسان وطولكرم، إلى المكان الذي اختبأ فيه الشيخ القسام ورفاقه، وهو مكان يدعى العارم ويبعد ثلاثة كيلومترات عن يعبد. أحاطت الشرطة المكان من كافة الاتجاهات ووضعت قواتها في ثلاثة خطوط هجومية، في مقدمتها الشرطيين العرب، وفي مؤخرتها الشرطيين والضباط الإنجليز.

كانت معركة حامية الوطيس بين قوتين غير متكافئتين من حيث العدة والعدد، حيث كان الشيخ عز الدين القسام مع ١١ من رفاقه، بينما قدمت الشرطة بالمئات، وصار الرصاص يئز أزيزًا مرعبًا يسمع من القرى المجاورة. توقف إطلاق النار للحظات، فقام شرطي عربي بدعوة رجال القسام إلى الاستسلام، فصاح الشيخ قائلًا: “إننا لن نستسلم، إن هذا جهاد في سبيل الله والوطن”، ثم قال لرفاقه: “موتوا شهداء”. اشتدّت المعركة بعدها لمدّة ست ساعات، بين مئات الشرطيين والقسام ورفاقه الأحد عشر وهم: الشيخ محمد الحنفي أحمد، والشيخ يوسف الزيباوي، والشيخ حسن الباير، والشيخ أحمد جابر، والشيخ أسعد كلش، والشيخ نمر السعدي، وتوفيق الزيري، والشيخ ناجي أبو زيد، والشيخ محمد يوسف، والشيخ داوود خطاب، والسيد عربي بدوي.

خلال المعركة استشهد الشيخ محمد حنفي أحمد، ثم تلاه الشيخ عبد الله الزيباوي، وبعدها استشهد الشيخ عز الدين القسام، وجرح الشيخان أسعد كلش وحسن الباير اللذان تم أسرهما. كذلك جُرح الشيخ نمر السعدي الذي فرّ من المكان، بينما أسر الشيخ أحمد جابر والسيد عربي بدوي والشيخ محمد يوسف. أما الباقون وهم الشيخ معروف حجازي والشيخ توفيق الزيري والشيخ ناجي أبو زيد، فقد تمكنوا من الهرب، رغم الطوق الشديد ورغم الأعداد الكبيرة من الشرطيين.

فأما المعتقلون فقد تم الحكم عليهم بخمسة عشر عامًا من السجن، بينما تم اعتقال الشيخ نمر السعدي بعد عدة أشهر من المعركة، وحكم عليه بالسجن لمدة عامين فقط.

في اليوم التالي، شيّعت جماهير غفيرة تقدر بأكثر من ثلاثين ألفًا الشهداء الثلاثة في حيفا، ودفنوا في مقبرة الاستقلال في بلد الشيخ. وهكذا لم يقدّر للشيخ عز الدين القسام أن يقود الثورة المسلحة الشاملة ضد الإنجليز والمشروع الصهيوني في فلسطين، ولكن حركته كانت مقدمة لما سيأتي بعدها بفترة قصيرة حيث اندلعت الثورة العربية الكبرى، واستمرت لمدة ثلاث سنين كاملة، بعد أن كانت الشرارة الأولى بفعل نشاط رفاقه الآخرين، والذين انطلقوا إلى الجبال ليكملوا ما لم يتم، ومنهم نائبه الشيخ فرحان السعدي، الذي اعتقدت الشرطة البريطانية أنه سيقع في أيديهم مع رفيقه القسام في معركة أحراج يعبد، ولكنه كان يؤدي واجبه في مكان آخر عند وقوع الاشتباك بين جماعة القسام والشرطة البريطانية.

إعلان الإضراب ١٩٣٦

كان استشهاد القسام ورفاقه علامة فارقة في تاريخ النضال الفلسطيني ضد المشروع الصهيوني، ومن أجل الحرية من الاستعمار البريطاني، إذ يعتبر الشرارة الأولى للثورة العربية الكبرى التي ابتدأت بإضراب عربي شامل امتد من ١٩ نيسان / أبريل عام ١٩٣٦، إلى ١٢ تشرين أول/ أكتوبر عام ١٩٣٦. وكان هذا الإضراب مقدمة لثورة عربية كبرى، استمرت لثلاث سنوات كاملة.

جانب من الإضراب الكبير في أبو غوش، عام 1936 (Getty)

في نيسان / أبريل ١٩٣٦، كانت الأجواء مشحونة للغاية، بسبب استمرار تدفق الهجرة اليهودية إلى فلسطين، حتى صار عدد اليهود ٤٠٠،٠٠٠ نسمة، مع وزن سياسي واقتصادي أكبر من ذلك بكثير، بحيث صار مساويًا للوزن العربي، رغم أنهم ما زالوا أقلية من ناحية عدد السكان ومساحة الأرض التي يسيطرون عليها.

كانت الأحزاب العربية منهمكة في تشكيل وفد لزيارة لندن لمناقشة القضايا الفلسطينية مع الحكومة البريطانية، ولكنهم لم يكونوا قد توصلوا إلى اتفاق بشأن تركيبة الوفد، عندما بدأت الأحداث المتسارعة والتي أدت إلى الإعلان عن الإضراب الكبير الذي ابتدأ من مدينة يافا، بعد أن اندلعت الأحداث بشكل سريع ومتتالٍ بحيث أن تغير كل شيء خلال أيام قليلة.

في مساء ١٥ نيسان/ أبريل ١٩٣٦، قامت مجموعة عربية مسلحة مكونة من ثلاثة أشخاص، بإيقاف حوالي ١٥ سيارة في الطريق بين عنبتا ونور شمس، وطالبت الركاب بدفع كل ما معهم للمجموعة، ولكن مقاومة بعض الأشخاص لهم، جعلتهم يطلقون النار ويقتلوا تاجرًا يهوديًا اسمه “يسرائيل حزان”، ويصيبوا يهوديين آخرين بجراح خطيرة، توفي على إثرها المدعو “تسفي دننبرغ” بعد خمسة أيام في المستشفى.

في اليوم التالي، قام يهوديان بقتل المرحومين سليم المصري وسالم جمعة في كوخهما على طريق ملبس-رعنانا، رميًا بالرصاص، انتقامًا لما كان في الليلة السابقة. وفي اليوم الذي يليه، أي ١٧ نيسان / أبريل ١٩٣٦، نظم اليهود مظاهرة كبيرة في تل أبيب بعد تشييع جثمان “يسرائيل حزان”، وخلال هذه المظاهرة قاموا بالاعتداء على العرب العاملين في الحوانيت والأكشاك، وخاصة الحوارنة، مما تسبب في ترك أغلب العرب لتل أبيب عند المساء ووصول شائعات إلى يافا حول الاعتداءات الصهيونية على العرب في تل أبيب، هذه الاعتداءات التي استمرت طوال اليوم التالي، حيث انتشرت مجموعات يهودية، وقامت بضرب سائقي العربات وباقي العمال العرب، ووزعت منشورًا يتحدث عن “روعة الإرهاب”، ويدعو إلى الانتقام.

في يافا يوم ١٩ نيسان / أبريل ١٩٣٦، وصلت شائعات شبه مؤكدة عن مقتل ثلاثة رجال عرب وامرأة في حوادث تل أبيب، وكان هذا الرقم قابلًا للزيادة والنقصان، مما أثار الجمهور، بحيث أصبحت المدينة تغلق متاجرها واحدًا تلو الآخر، واحتشد الناس في ساحة الشهداء مطالبين الحكومة بإجراء تحقيق في أمر القتلى العرب، ولما لم يحدث ذلك ثارت الحشود، وابتدأت بمهاجمة اليهود الذين يعملون في يافا، ولم تتوقف الأحداث حتى أصدرت الحكومة بيانًا يفرض الأحكام العرفية، ومنع التجول بعد الخامسة مساءً في مدينة يافا. حاول الكثير من العرب تهدئة الخواطر ومنع الاعتداءات على اليهود، ولكن ذلك لم يمنع مقتل ٨ من اليهود وجرح أكثر من ٦٠ شخصًا، في ذلك اليوم الدامي.

في اليوم التالي، أي ٢٠ نيسان / أبريل ١٩٣٦، وعند الساعة العاشرة صباحًا، اجتمع وفد يمثل أهالي يافا على “مختلف طبقاتهم وطوائفهم”، وأعلن الإضراب العام الشامل في المدينة “برًا وبحرًا”، “إعلانًا عن سخط العرب على هذه الخطط الفاسدة (للحكومة) والتي بها تتم إبادة العربي في بلده العربي”. وذّيل البيان بتوقيع السادة: يوسف عاشور، وراغب أبو السعود الدجاني، ومحمود أبو خضرة، والفرد روك، وحمدي النابلسي، وفخري النشاشيبي، وإبراهيم الشنطي، وسعيد الخليل. في اليوم نفسه، وقعت في تل أبيب مظاهرات واضطرابات طوال النهار، في محاولة من اليهود للهجوم على بيوت العرب في يافا، ولكن الشرطة البريطانية منعتهم من ذلك بالقوة. كذلك أعلن الإضراب العام في مدينة نابلس، وجرت مظاهرة كبرى في الصباح، وأخرى في الثالثة بعد الظهر، واستمرت هذه المظاهرة حتى الليل، بعد مناوشات مع عناصر الجيش والشرطة. وعقدت اللجنة القومية في نابلس اجتماعين، أعلنت بعدهما عن الاستمرار في الإضراب، ودعوة مدن فلسطين بالإسراع في تأليف لجان قومية، تدعو إلى إضرابات عامة وشاملة في جميع المدن.

في اليوم التالي، انضمت حيفا إلى الإضراب العام بعد تأسيسها للجنة قومية، ثم تبعتها مدينة الخليل، ثم القدس، واللد، والرملة، والناصرة، والمجدل، وجنين. ثم تبعتها أريحا، وقلقيلية، والحولة، وبئر السبع، وغزة، وخان يونس، وبيسان وغيرها.

في نفس الوقت، استمرت المناوشات والمظاهرات الصاخبة في يافا من جهة، وتل أبيب من جهة أخرى، بينما انطلقت مظاهرات منددة ببريطانيا وأحداث يافا في كل المدن العربية، التي عقدت فيها اجتماعات متتالية للّجان القومية التي تأسست من أجل قيادة الأحداث المتتالية.

في ٢٥ نيسان / أبريل ١٩٣٦، عقد اتحاد الأحزاب العربية اجتماعًا في القدس، وقرروا تأسيس لجنة وطنية عليا مؤلفة من رؤساء الأحزاب وشخصيات وطنية أخرى، بناءً على اقتراح يعقوب الغصين ومحمد الخضرة من يافا، ووفد حيفا المؤلف من رشيد الحاج إبراهيم، ومعين الماضي، وحنا عصفور، ومحمد علي بك التميمي. قرر الاجتماع قبول الاقتراح والاستمرار في الإضراب العام في سائر أنحاء فلسطين، وتأليف اللجنة العربية العليا لمتابعة النضال وتنظيمه، كما ودعي الاجتماع إلى “وجوب التضامن والاتحاد والاتجاه قدمًا نحو تعزيز حركة الجهاد الوطني بجبهة لا وهن فيها ولا صدع”.

اما أعضاء اللجنة العربية العليا التي أسسها الاجتماع فكانوا السادة: المفتي الحاج أمين الحسيني رئيسًا، وأحمد حلمي عبد الباقي أمينًا للمال، وعوني عبد الهادي أمينًا للسر، والدكتور حسين الخالدي، ويعقوب فراج، والفريد روك، وجمال الحسيني، وراغب النشاشيبي، وعبد اللطيف صلاح، والحاج يعقوب الغصين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى