“هكذا نعود” إلى يافا وفلسطين المفقودة!
وأكدت تماري أن هذا الكتاب يأتي تتويجًا لمشروع فنّي سبق أن أنجزته بالحفر الفخاري البارز في الفترة ما بين 1989 و1996، تحت عنوان “صور عائلية”، وهو سلسلة من 15 لوحة نحتية استلهمتها من أرشيف والدها المُصوّر، وصور أخرى من والدتها، وتعود جميعها إلى مطلع عشرينيات القرن الماضي وحتى 1948، عام النكبة.
وامتلك والدها في أوائل العشرينيات من عمره كاميرا “روليفليكس”، وكان مصورًا هاويًا وشغوفًا بجمع الصور الفوتوغرافية، بحيث صوّر وجمع المئات من الصور حول مواضيع وأحداث متنوعة، كالمناسبات العائلية والاجتماعية، وصور الأصدقاء، والصور الشخصية، والنزهات ورحلات السفر، بل وثّق أيضًا بكاميراته الخاصة صورًا تتعلق بالأحداث السياسية والتاريخية التي عاصرها، وكانت مليئة بالقلاقل والأحداث العنيفة، إبّان الاحتلال البريطاني لفلسطين، أو ما يطلق عليه البعض تعبير “انتداب”، كالهبّات الوطنية والمواجهات مع الصهاينة، التي أدت في نهاية المطاف إلى احتلال فلسطين، قبل ستة وسبعين عامًا.
لكنّ والدها لم يحفظ صوره وفق ترتيب زمني، ولم يصنفها أيضًا وفق المواضيع، بحيث كانت الصور في حالة “فوضى عارمة” ألصق بعضًا منها بشكل عشوائي في خمسة ألبومات، بينما احتفظ بأغلبيتها في علب من الكرتون، كما لم تحمل أغلب الصور أي تعريف كتابي أو أي تاريخ، لذا عمدتْ فيرا إلى جمعها وتصنيفها، منذ وفاته، لكنها وجدتْ أنها مهمة صعبة للغاية، خاصة أن الأمر تطلب استرجاعها لمقتطفات من المعلومات المتناثرة التي سمعتها من والدها حول بعض الأحداث والأشخاص المتواجدين في الصور، وهي صور التقطت في فترات ومناسبات ومواقع مختلفة في فلسطين، بدءًا من يافا إلى القدس، فالخليل، ورام الله، وطبريا، وغيرها.
وكان هدف تماري من تأليف كتاب “هكذا نعود” هو توثيق بعض الحكايات الشخصية التي استجمعتها لأفراد عائلتها، في أعقاب القصف العنيف والتدمير الذي تسببت به العصابات الصهيونية العام 1948، وأدى إلى تهجير العديد منهم إلى خارج فلسطين، خاصة أن هذا التهجير القسري من بيوتهم ومدنهم أدى إلى فقدانهم لمصدر رزقهم، وممتلكاتهم، ومقتنياتهم النفيسة، ووثائقهم، وصورهم، وكل ما يشكل دليلًا على عقود أو أكثر من تواجدهم في وطنهم.
“أردت أن أتخيّل مشاعرهم وكيف تعاملوا مع تلك الصدمة والمعاناة، بعد تشتتهم وانتشارهم حول العالم، وكيف استطاع الكثيرون منهم بناء حياة جديدة في المنفى، رغم الذكرى الحزينة للفقدان، والحنين لوطن مسلوب أصبح كل ما تبقى لديهم”، مضيفة: “انتقل والديّ، وكلاهما من مدينة يافا، بعد زواجهما العام 1940 إلى مدينة البيرة، توأم مدينة رام الله، وهي حالة في الضفة الغربية، لهذا نجوا من المصير المأساوي لغيرهم من الفلسطينيين الذي أصبحوا لاجئين بعد حرب 1948… كانت عائلتنا محظوظة، لأننا كنّا نعيش في منطقة رام الله والبيرة التي لم تتعرض، وقتذاك، للحرب المفتوحة والقصف والتدمير الذي ارتكبته عصابات الهاغاناه والإرغون والقوات المسلحة اليهودية، قبل وبعد 15 أيار (مايو) 1948، وهكذا تمكنا من البقاء في بيتنا في البيرة، والحفاظ على كل ممتلكاتنا، وكانت مجموعة صور والدي الأغلى من بينها”.
وما أبهر تماري، ودفعها لمحاكاة الصور في مشروع فنّي، والآن في كتاب سيريّ، هو أنها عكست الكثير من التفاصيل الدقيقة للحياة في مجتمع الطبقة الوسطى للمدن الفلسطينية قبل احتلالها، عبر التوثيق المصوّر للقاءاتهم الاجتماعية، وأنشطتهم اليومية قبل التهجير، فبعض هذه الصور المناسباتية توثق لحفلات زفاف، وطقوس المعمودية، والأعياد، والنزهات، وأخرى توثق بعض جنازات أفراد العائلة، كعمتها التي توفيت في القدس، بحيث وفّرت لها الصور خيوطًا معرفية جديدة ارتبطت بجوانب من حيوات عائلتها، منذ بداية القرن العشرين.
ومع نشر الكتاب بالإنكليزية أولًا في العام 2022، وصدوره بالعربية، مؤخرًا، بمنحة من الصندوق العربي للثقافة والفنون، ومساهمة مؤسسة دلول للفنون، والمتحف الفلسطيني، تكون فيرا تماري، حققت حلمًا طالما روادها منذ زمن بعيد، فالكتابة، كما تراها، نافذة نرى من خلالها رواية متفردة حميمة من حياتنا كفلسطينيين، والسردية الناتجة عنها لا تتعلق بالفقدان والنزوح فحسب، لكنها تتناول التذكر المتجدد، فهي بشكل أو بآخر تشكل قصة من قصص “العودة”، فمن خلال الذاكرة والذكرى، اختارت استحضار الأوجه المختلفة لتجارب عائلتها، كنموذج لعائلة فلسطينية عاشت عقودًا في المدن التي احتلت وتم تهجير سكّانها إثر النكبة، وتشتت أفرادها في جميع أنحاء العالم.
وأكدت مؤلفة “هكذا نعود” أن كتابة هذه القصص أتاحت لها فرصة التأمل في أفكار راودتها منذ الطفولة، ولا تزال، متسائلة: كيف كانت ستكون الحياة في فلسطين لو نجت من السلب والفقدان المأساوي لأرضها، والطرد القاسي لشعبها؟ ماذا لو أتيح لنا أن نستمر في العيش بأمان في بيوتنا، وقرانا، ومدننا؟ ماذا لو أتيح لنا أن نعيش الرفاه والاستقرار، بشكل متواصل دون انقطاع بسبب توترات الحرب والاحتلال والمنفى؟ ببساطة، كيف كان سيكون عليه الوضع لو أتيح لنا، كأفراد وكأمة، أن نسعى وراء شغفنا وأحلامنا؟، مشددة على أن “هذا الكتاب لم يحرّرني من هذا الحلم المستحيل، إلا أنه حملني على جناح عودة ذهنية متخيلة إلى يافا وفلسطين المفقودة”.
توزّع الكتاب على عشرة فصول، هي: تهجير قسري ونزوح أليم، ووالدي وأصدقاؤه وحياتهم الشبابية في يافا، ونزهة في الخليل، وعلى الشرفة، وأحلام غير مكتملة، وامرأة أمام الباب، ومن هو إرنست؟، وعطلة “استثنائية”، وامرأتان من يافا ولعبة ورق الشدة الصينية، والإبعاد.
واعتمدت تماري على صور شكلت عناصر مفتاحية لفصول كتابها “هكذا نعود”، كصورة والدتها مارغريت (مارغو) نقولا دباس وصورة أمام بيتها في يافا العام 1939 كمدخل لفصل “امرأة أمام الباب”، وصورة لإرنست أبكاريوس، صديق والدها، وزوجته مارثا، وابنيهما برنارد وميشيل في القدس عام 1938 مدخلًا لفصل “من هو إرنست؟”، وصورة توثق زيارة إلى منزل “العم إدمون” في بيروت العام 1950، وتظهر فيها مؤلفة الكتاب جالسة على كرسي أمام المجموعة باعتبارها مدخلًا لفصل “عطلة استثنائية”، وهكذا.
هذا الكتاب، الذي وصفه الكاتب رجا شحادة بأنه “جواهر قصصية قصيرة مليئة بتفاصيل الحياة الفلسطينية التي وإن بهتت قليلًا، لكنها لم تختفِ بتاتًا”، يشكّل وثيقة سردية وبصرية تنضوي في إطار حرب الرواية المتواصلة في مواجهة زيف رواية الاحتلال والصهيونية، وبطريقة مغايرة، تجمع بين السلاسة والعمق، وتعدّد المواد المستخدمة في السردية.
نقلاً عن “ضفة ثالثة” (منبر ثقافي عربي/ العربي الجديد).