شرفة

المقاوم الفلسطيني: أنا لا أقتل النساء

كتب محمد جرادات- ميدان مشتعل بالنار. عود ثقاب يشعله فارس من حواري القدس أو أزقة جنين في مواجهة “دولة” قيل إنَّ “جيشها لا يُقهر”. يقاتل وهو موقن بأنَّ ثمة رصاصة ستخطفه بعد دقيقة أو ربما بضع ثوانٍ. يجد قبالته مستوطنة آتية من بولندا أو أوكرانيا أو منهاتن، تستوطن بيت جده في يافا أو سلوان أو بيت حنينا، وسبق أن تجنّدت طوعاً أو جبراً في هذا “الجيش” لمدة لا تقل عن سنتين، ولكن كل ذلك لا يمنع هذا الفارس المقبل من أطلال التغريبة الفلسطينية أن يعفّ عنها رصاصاته، ويشيح بوجهه قاصداً وحشاً مسلحاً ببندقيته.

أسئلة جوهرية تلحّ في وعي كل مهتم ومتابع، مهما تباعدت الخلفيات السياسية والفكرية، وخصوصاً بعد تعمّد المحتل الرد على ثأر جنين بالهجوم على الأسيرات في معتقل الدامون: لماذا حرص ضياء حمارشة ورعد خازم وخيري علقم على تجنب نساء المحتل وأطفاله وعجزته؟ وكيف أمكنهم ذلك في جوّ مشحون بالرصاص والموت؟ ما البواعث النفسية والفكرية التي ألزمتهم وسط معمعان الحرب على التشبث بهذه القيم الدينية والتقاليد العربية والشيم الوطنية؟ وكيف ظهرت حقيقة المحتل بتعمد استهداف الأسيرات، وهن في منتهى الضعف الإنساني خلف قضبان الأسر؟

خرج الطفل المقدسي المقاوم محمود عليوات من بيته مسلحاً بمسدس يفوق عمره الوردي، وترك خلفه رسالة مسامحة وفخر لوالدته، قاصداً بث المزيد من السعادة في قلوب الفلسطينيين وأحرار العالم. وقد رأى ببراءة طفولته كيف أنعش خيري علقم القلوب التي اكتوت بمجازر المحتلين في جنين.

كان يمكن لمحمود، وهو ابن الثالثة عشر عاماً، أن يقتحم أيّ تجمع استيطانيّ يغصّ بالنساء والعجزة أو الأطفال من عمره، بما يمكنه محاولة التغلب عليهم، وخصوصاً أن المستوطنين و”الجيش” والشرطة ما زالوا متحفزين أشدّ ما يكون عليه التحفز، لكن محمود لم يفعل ذلك، بل قصد مجموعة مسلحة من المستوطنين تجوب شوارع سلوان المهددة بالتهجير، على رأسهم ضابط في وحدة المظليين. احتمى محمود بسيارة مجاورة، وبدأ هجومه متمسكاً بكل تقاليد الشرف العسكري.

نجت ليئورا وشقيقتها موران، وقد سارعت إحداهما إلى التوسل أمام خيري علقم حتى لا يقتلها، ولكنها فوجئت به وهو يقول لها: اذهبي من هنا، فأنا لا أقتل النساء، في تقليد قتالي كشفت عنه المستوطنة شارونا من “بني براك”، التي كانت تقطع الطريق مع امرأة أخرى معها عدة أطفال، فإذا بالفارس ضياء حمارشة يشهر سلاحه، ولكنه بدلاً من قتلهما مع الأطفال في صيد وفير، فوجئتا به يطلب منهما الابتعاد عن المنطقة، ليذهب باحثاً عن ضالته في ميادين “تل أبيب”.

خرج خيري في مشوار ثأره لجنين، وقد رأى في أزقتها “الجيش الأول في الشرق الأوسط” وهو يقتل عجوزاً في الستين من عمرها، ويفتح نيران قناصاته المتمرسين وهم يعتلون أسطح بنايات شاهقة، لتصطاد عدة مدنيين عُزّل وقفوا عند مدخل مستشفى جنين الحكومي المجاور للمخيم.

وليس بعيداً من المخيم أيضاً، قرب مشفى ابن سينا، داست آلية مدرعة لهذا “الجيش” على رأس شاب مدنيّ أعزل حتى قتلته، ثم انقضت على سيارة مدنية يقودها موظف على رأس عمله في مديرية التربية والتعليم، حتى حطمت عظام صدره.

حدث ذلك فيما نتنياهو وقادة ائتلافه اليميني المتوحش، ومعهم قادة “الجيش” والشاباك، يتفاخرون بأن الهجوم حقَّق هدفه بالقضاء على 3 من قادة الجهاد الإسلامي، ولكنهم لم يكونوا في حقيقة الأمر سوى 3 أشقاء من عناصر كتيبة جنين التابعة للجهاد، التي تدافع عن جنين في مواجهة اقتحامات المحتل وبطشه، ولكن ذلك لم يحرف خيري علقم عن القيم التي نشأ عليها، فما هي هذه القيم التي انغرست في وعيه؟

حفل النص الإسلامي الروائي بكل ما يؤكد حرمة قتل النساء والأطفال والعجزة في الحرب، بما أرسى قيمة دينية ثابتة تجاوزت الحكم الشرعي القابل للنظر والاجتهاد، وهو ما أجمع عليه أهل العلم، إلا ما كان من شواذ الفرق والنشاز منهم، ممن تاهوا خلف روايات منكرة طفحت بالدموية والتكفير، وحادوا عن العمدة التي استقر عليها الإسلام؛ ذلك الأمر الميدانيّ الجازم لرسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم): “لا تقتلوا وليداً طفلاً، ولا امرأة، ولا شيخاً كبيراً”. لذا، نجده غضب عندما وجد امرأة مقتولة في ميدان معركة، قائلاً: “ما كانت هذه لتُقاتِل”، ثم أصدر أمره لأحدهم: “الْحَقْ خالداً بن الوليد، فقل له: لا تقتلوا ذرية ولا عسيفاً”.

ترسَّخت هذه القيمة الإسلامية الأصيلة في وعي فرسان المقاومة، وتجاوزت ما ينغّص عليها من فتاوى الشذوذ العقلي التي نادى بها الدواعش ضد من اعتبروهم مرتدين من المسلمين أو ضد الطوائف غير الإسلامية المتعايشة في الوسط العربي منذ قرون خلت.

وقد جاء تكريس هذه القيمة في تجنّب النساء والأطفال، ليعيد رسم معالم بوصلة الجهاد في الإسلام، بعد محاولة حرفه طوال عقد مضى، بما يؤكّد عمق الترابط النفسي والفكري والأخلاقي بين ميدان المواجهة في فلسطين ونضارة التأصيل الديني التراثي والجانب المشرق فيه.

ولم تكد تمر بضعة أيام على تجنب نساء المحتل في عمليتي الثأر في القدس، حتى تعمّد هذا المحتل أن يستهل وحشيته على الشعب الفلسطيني عبر ما يراه أضعف حلقات القوة فيه، عندما انقضّ على الحركة الأسيرة المقيّدة خلف القضبان، وخصوصاً هجومه الإجرامي على الأسيرات.

وقد رشّهن بالغاز، واقتاد بعضهن إلى العزل الانفرادي، ما اضطرهن إلى إشعال النار في زنازينهن، ولم يخرج عاقل في هذا الكيان ليقارن بين شهامة خيري علقم مع نساء العدو وخسّة إيتمار بن غفير مع أسيرات الدامون، وكأنَّ الصراع بمجمله ينقاد طوعاً إلى أصل الحكاية في هذا الوطن الصغير الذي ينهض فتيته من تحت الركام ليقارعوا جبروت المحتل ببراءة محمود عليوات وعناد كتيبة جنين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى