نشرت مؤسسة الدراسات الفلسطينية تقريرا بمناسبة انطلاقة مونديال كرة القدم في الدوحة، 2022، تضمن صورة نادرة قد تكون الأولى من نوعها في فلسطين، وربما في بلاد الشام، للعبة كرة القدم في باب الساهرة في القدس، التُقِطت في سنة 1902، بحسب سجلات أرشيف مؤسسة الدراسات الفلسطينية، أي قبل 120 عاماً.
وحسب تقرير المؤسسة، ظهرت الصورة لأول مرة في كتاب “قبل الشتات”، للمؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي، وهي من مجموعة المؤسسة المستحوذة من جامعة أوكسفورد (أرشيف كلية سانت أنتوني). تمتاز هذه الصورة بإبرازها بدايات الحداثة المشهدية في حواضر فلسطين العثمانية. وتظهر الصورة تجمعاً لرجال ونساء خارج أسوار المدينة، لحضور مشهد رياضي لا علاقة له بمواكب الأعراس، ولا بالمواكب الدينية، ولا بالاحتفالات الموسمية، ولا بالتجمعات العسكرية التي كانت الدولة تنظمها، فهي فرجة مشهدية بامتياز، يختلط فيها النساء والرجال والأطفال، جمهور المشجعين براحة، ومن دون مرافقة أجهزة الدولة، كما هو معهود في مهرجانات النبي موسى، أو مسيرات النبي روبين في تلك الفترة التاريخية. ويعكس لباس المشاهدين المتفرجين اختلاط أنماط متفاوتة من اللباس التقليدي باللباس الأوروبي الوافد (القبعة والطربوش، وأيضاً العمامة للرجال: والفستان والملاية والعباءة للنساء)، أما اللاعبون فيرتدون الشورت الرياضي، إيذاناً بغزو الرياضة الحديثة.
وطبقاً لهذا التقرير، كانت تُقام هذه المبارة في أطراف مقبرة باب الأسباط الإسلامية، حيث يرتكز شابان يرتديان القمباز والطربوش مع البدلة الأوروبية على شاهدة قبر، ولا ندري ما إذا كان المصور المجهول اختار هذا الإطار للصور من أجل إبراز تناقضات المشهد أم لا. أمّا المكان فهو الساحة العمومية في شمالي المدينة (باب الساهرة)، في مقابل البناء الحديث للڤيلات الحديثة للبورجوازيين المقدسيين القادمين من البلدة القديمة إلى امتدادات المدينة الحديثة خارج السور. ويلاحظ تقرير مؤسسة الدراسات الفلسطينية هنا أن هذه الڤيلات ما زالت في طور التكوين والبناء، وهي محاطة في شمالها بقصور آل الحسيني وقليبو وجارالله والعلمي والنشاشيبي وغيرهم في وادي الجوز، والشيخ جرّاح ومنطقة سعد وسعيد إلى الغرب منها.
مقهى المعارف
عن ذلك تقول المؤسسة: “الفرجة” ظاهرة قديمة في ثقافات الشعوب، وقد تم توثيقها في بلادنا منذ القرن التاسع للميلاد. مثلاً في أعمال الجاحظ “الحيوان”، و”البخلاء”، وفي “رسالة في الجد والهزل” نرى توثيقاً مفصلاً للألعاب الشعبية ذات الطابع المشهدي. في فلسطين، تم توثيق مجتمع الفرجة في نوعين من التجمعات: الأول يتعلق بالمشاهد الموسيقية التي رافقت مواسم الربيع والصيف، مثل النبي موسى (في أريحا) والنبي روبين في يافا، والثاني يتعلق بالمسرح الشعبي، مثل خيال الظل (الكراكوز) وصندوق العجب وبدايات المسرح الحديث.
وتضيف: “قد يكون مقهى المعارف، الكائن مقابل باب الخليل في القدس، أول مسرح بالمعنى الحديث، والذي كان يُعرَض فيه نوعان من المسرحيات التقليدية (خيال الظل)، والحديثة (روميو وجولييت)، وقد وثّق ذلك واصف جوهرية في كتاب “القدس الانتدابية في المذكرات الجوهرية”، كما وثّق صورة فريدة لمسرح المعارف أخذتها العين السحرية لشركة أندروود سنة 1904.
ما الجديد في الصورة
عن ذلك تتابع مؤسسة الدراسات الفلسطينية بالقول: “أولاً أنها توثّق حداثة مشهدية في حواضر فلسطين يختلط فيها النساء والرجال في مكان عام خارج المناسبات الدينية أو الموسمية لأصحاب المقامات والأولياء. ثانياً: أنها توثّق دخول الجماهير الواسعة في ساحات المدينة في علاقة المتفرج والمشارك في اللعبة (تشجيع، هتافات، إلخ…) خارج رقابة الدولة، أو مؤسسات الدين الرسمي. لا شك في أن لعبة كرة القدم تنتمي إلى تلك المظاهر من الاحتفاء الجماهيري، والتي تشكل خطراً على الدولة، كما هي الحال بالنسبة إلى تظاهرات الحرية التي انبثقت من الثورة الدستورية في ربيع 1908. ثالثاً: إن تجمهرات كرة القدم هي فُرجة جماهير تعتمد على تنفيس الاحتقان الشعبي، من خلال صراعات حول اللعبة وتماثل جمهور المتفرجين مع أحد الفريقين ضد الآخر. وبذلك، هي أشبه بالملهاة التي انتشرت في بدايات ألعاب الدولة الرومانية، والتي عُرفت بمفهوم “الخبز والسيرك”، وهي عملية التنفيس التي تخلّص النخبة الحاكمة من غضب المحرومين من خلال إلهائهم بالألعاب المشهدية. إلاّ إن لعبة الفوتبول استطاعت أن تتجاوز هذه الحدود التاريخية من خلال تماثل جمهورها بمجموعات إثنية، أو اجتماعية محرومة، أصبحت تمثلها. إلاّ إن صورة لعبة باب الساهرة ما زالت بعيدة عن هذه التحولات التنفيسية، وما زالت في حيّز ذاكرة الفرجة المبهجة للجماهير المقدسية التي خرجت من مقيدات البلدة القديمة إلى عالم جديد رحب يبشر بالانعتاق النفسي والاجتماعي.