“الختيار” الذي أخرج الشعراء من ثنائية المديح والهجاء
محمد المتيَّم- منصة الاستقلال الثقافية
إن المتأمل لتاريخ الشعرية العربية في ارتباطها ببلاط السُّلطة، سيجد غالبية -إن لم يكن كل- قصائد الشعراء، تنحصر بين مديح الزعماء وهجائهم، وتذهب في أحيان أقل إلى غرضيْ الرثاء أو الاستجداء، منذ أطلق امرؤ القيس صيحته المبكرة:
“بكى صاحبي لمّا رأى الدرب دونَهُ
وأيْقَن أنّا لاحقان بقيصرا”.
إن الشعر بطبيعته انعكاسٌ للسياق الاجتماعي؛ متمثلاً –هنا- في طبيعة العلاقة بين الشاعر والممدوح، ملكاً أو زعيماً أو شيخ قبيلة، وهو انعكاسٌ أيضاً للتركيبة النفسية الخاصة بالشاعر وتصوّراتها عن رجل السياسة.
الملاحظة الجديرة بالتأمل، أنه حتى في أكثر لحظات التناغم بين الشاعر والزعيم السياسي، وتتجلّى مثلاً في علاقة أبي الطيب المتنبي بسيف الدولة الحمداني، نستطيع أن نستبطن خطاً أحمر يردع الشاعر عن ادِّعاء النديَّة، ويمثل هاجساً أبدياً عند السياسي، الذي يتحسَّس من رجلٍ يمتلك سلطة موازية سمِّها إن شئتَ المجاز أو الخيال أو الكلمة في أيٍّ من تجلياتها.
دراسات عديدة أفرِدَت لعلاقة الشاعر بالسياسي، وأثرها المتبدّي في المنتج الإبداعي، لكن المفارق في تجربة/ علاقة الرئيس الفلسيطني الراحل ياسر عرفات، هو أنه كان محاطاً على الدوام بشعراء وطنه مع أقل قدر ملحوظ من التحفظات، حتى وإن كان أقربهم إليه وأكثرهم حظوةً لديه محمود درويش، فإن جميعهم كانوا معروفين لديه بالاسم، وصادف والتَقَوه في أحايين كثيرة، ولا أظن زعيماً عربياً كان على صلة بكل هذا الكَمّ من شعراء وطنه مثل “الختيار”.
هناك أربعة عوامل قامت عليها مفاصل علاقة عرفات بشعراء وطنه/ قضيته، أولها:
سعة ثقافته وإلمامه بالتراث العربي وامتلاكه رؤية خاصة تجاهه. يتعرَّض الكاتب الفلسطيني حسن خضر لذكر زيارة وفد الكتاب العالميين لعرفات إبَّان الحصار، في مقالة له، جاء فيها “(…) تكلَّم عرفات عن طفولته في القدس، ثم تذكَّر أن الحاضرين يحترفون الكتابة، فغيَّر الـموضوع وانتقل إلى الأدب. تكلَّم عن السموأل، الشاعر اليهودي، وعن العلاقة بينه وبين امرئ القيس، وعندئذٍ تدخَّل محمود درويش قائلاً بالإنجليزية: كان امرؤ القيس أعظم شعراء العرب في الجاهلية، فردَّ عرفات بالإنجليزية، وكان حتى ذلك الوقت يتكلّم بالعربية: لا، لا، لـم يكن أعظم الشعراء، بل كان واحداً من الشعراء العظام”.
إذًا، كان عرفات ملمّاً بصورةٍ ما بأطراف من التراث العربي، والأمر الأهم أنه لم يعجبه موقف محمود درويش من انتخاب امرئ القيس كالشاعر الأعظم، وأنه ثمة عظماء آخرون يوازونه ويأتي ضمنهم، وفق ما يرى أبو عمار. فنحن إذاً أمام زعيم عربي يستند على خبرات جمالية تجاه لغته وهذا أمرٌ استثنائيٌ كما هو معروف.
العامل الثاني، هو المساحات الإنسانية التي حاول أن يعمِّقها بينه وبين كتّاب وشعراء وطنه، إذ يحكي الروائي الفلسطيني البارز يحيى يخلف، وهو من الذين اقتربوا لعقود من “الختيار”، أنهما كانا يتعاونان في حل الكلمات المتقاطعة على متن الطائرة في لحظات الصفو، ويستطرد يخلف متحدثاً عن اهتمام عرفات بشؤون الجماعة الأدبية –الرسمية والمهمشة- في فلسطين “(…) وكان يتابع أخبار الأدباء والكتاب والفنانين وأخبار الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين، وحتى آخر أخبار الشعراء الذين أطلقوا على أنفسهم «شعراء الرصيف»، وأصدروا مجلة «الرصيف» التي كان يُنشر فيها الشعر الناقد، المتمرد على القوافي والمألوف، ولا يأبه بالوقار، بل وينزع إلى العبث. (…) في لقاء جمعهم به وكنت حاضراً، شكوا له من إهمال الاتحاد لهم، وعدم إشراكهم في ملتقى قلعة الشقيف الشعري. فطلب مني أن أقيم لهم أمسية في قاعة عبد الناصر في جامعة بيروت العربية. وأقمنا الأمسية بالفعل وحضرها القائد العام، وشارك بها نخبة منهم. (…) لقد اعتبر أبو عمار تلك الظاهرة المتمردة على الوقار ظاهرة إنسانية، ورأى فيها تياراً يحاول أن يصنع الحداثة على طريقته الخاصة، وكان يريد من حضوره الأمسية أن يؤكد لهم اعترافه بظاهرتهم”.
العامل الثالث، رغبته في أن يكون شعراء وأدباء وطنه أبواقاً للقضية والثورة لا للشخص الزعيم، فرفع شعاره الخالد “الثورة ليست بندقية ثائر فحسب، بل هي أيضاً قلم أديب، وخيال شاعر، وريشة فنان”.
والذي يستعرض تاريخ التجربة الفلسطينية سيدرك أن كتابها وشعراءها هم الذين حملوها للجماهير في العالم المفتوح –كما كان يهدف عرفات- مثلما حملها السياسيّون بالضبط في القاعات المغلقة وأروقة الأمم المتحدة.
العامل الرابع، أنه مع تحريضه مثقفيه على المقاومة بالقلم، لم يتنازل عن رمزية المسدس، على الأقل حتى أوسلو 1993. فالمسدس الذي لا يفارق جانبه وكأنه نتوءٌ طبيعيٌّ في جسده، يحضر في موقفين شديدي الأثر والدلالة مع اثنين من أبرز شعراء فلسطين: الأول سميح القاسم حين قال له في جمعٍ كبير: “والله يا أبا عمار لو رأينا فيك اعوجاجاً لقوَّمناه بأقلامنا”، فوقف أبو عمار هاتفاً: يا محمد (محمد الداية حارسه الشخصي)، أحْضِر المسدس، فأخذه منه ودنا من سميح، وقال له: “لا يا أخويا يا سميح، إذا رأيت فيَّ اعوجاجاً فقوِّمه بمسدسي هذا، لا بالقلم”!
والموقف الثاني للمسدس كان مع الشاعر الفلسطيني والثائر الأممي معين بسيسو، فبسؤال نجْلِه في حوار صحفي، كيف للشاعر معين بسيسو أن يصبح مستشاراً ثقافياً لياسر عرفات الذي اعتقله؟ أجاب الابن: “معين بسيسو كان دائماً ما ينتقد كلَّ الثوريين المتأمركين، وكان له موقفٌ حادٌّ آنذاك -أي في منتصف السبعينيات- من ياسر عرفات، فانتقده فعُوقِبَ بالاعتقال ليومين أو ثلاثة في منزل. وهو ما جعل الزعيم ياسر عرفات محلّ انتقادات من الطبقة المثقفة، كما أن كلاً من أبي جهاد وأبي إياد تعاطفا مع معين بسيسو. وهو ما دفع بياسر عرفات في نهاية الأمر إلى أن يُطلق سراح والدي ويعتذر منه، حتى إنّه أهداه مسدّساً، وفي مرحلة متقدمة عينه مستشاراً ثقافياً لمنظمة التَّحرير الفلسطينية”.
رمزية المسدس كانت حاضرة دائماً عند “الختيار”، ومحاولة ربط المثقفين والشعراء به، كانت لتُوَجِّهَ بوصلتهم إلى أنهم لا يكتبون في الفراغ ولا للتسلية، ولكن كرديف ثقافي ناعم لخشونة المسدس، الذي سيحسم المعركة.
لكن هل كل شعراء فلسطين وأدبائها كانوا على قلب رجل واحد في تعاطيهم مع عرفات؟!
الحق أقول إن كثيرين منهم أصابتهم قارعة أوسلو، ورأوا أن “الواقعية السياسية” خذلت رؤاهم وتطلعاتهم، فغضبوا لعرفات ولم يغضبوا منه، والذين صنَّفوها خطأً لعرفات، رأوها ورطةً دفعه للانزلاق إليها خذلانُ القيادات العربية من حوله، فهو الضحية. يكتب مريد البرغوثي –أحد أشد الناقمين على أوسلو- في كتابه «ولِدْتُ هناك..ولِدتُ هنا»: “(…) رغم كل شيء، كنت شأني شأن الشعب الفلسطيني كله، لا أرى في أخطائه –ياسر عرفات- أخطاء المجرم، بل أخطاء الضحية”.