يصنعون أفراحًا في القدس
لم تختلف كثيرًا طقوس الأعراس في مدينة القدس الّتي تمارَس الآن، عن تلك الّتي يتبعها سكّان المدينة منذ عقود، لكنّها تطوّرت تقنيًّا وفنّيًّا مع مرور الوقت والتقلّبات المجتمعيّة.
قديمًا كان أصحاب الفرح يردّدون الأهازيج الشعبيّة الخاصّة بالأفراح على مدار أسبوع، ويلتفّ الجيران حولهم في مشهد يوثّق اللحمة والتكافل الاجتماعيّ العميق؛ وقبل دخول الفرق لإحياء سهرة العريس، كانت الربابة هي الآلة الموسيقيّة الغالبة على تجمّعات الرجال، وحول العازف يردّد الجميع أهازيج فرح للعريس، وعند النساء تصدح الحناجر بالأهازيج، ترافقها الطبلة الّتي ستبقى رفيقة النساء في أعراس فلّاحي القدس حتّى يومنا هذا. النساء عادة لا تطول حفلاتهنّ لوقت متأخّر، فيجلسن على الشرفات لمراقبة سهرة الرجال، الّتي تنتهي عادة بوليمة عشاء.
لاحقًا، ظهرت فرقة «أبو غنّام» في القدس، كانت تكلفة إحيائها لسهرات الرجال 15 دينارًا أردنيًّا، وتضمّ عازف عود تقع مهمّة الغناء عليه، إضافة إلى عازف على آلة الكمان، وآخر على الطبلة، ورابع على الدفّ، وخامس على الشبّابة أو اليرغول.
زفّة من «المسجد الأقصى»
عادة أخرى اتّسمت بها أعراس «الخلايلة» في القدس، الّذين كانوا ينطلقون في اتّجاه البلدة القديمة لحمّام العريس في الحمّام العامّ، ثمّ تبدأ زفّته من المسجد الأقصى في طريق العودة إلى المنزل. أمّا فلّاحو المدينة فطقوس أفراحهم تبدأ أمام منزل العريس، ويسير الرجال في المقدّمة وخلفهم النساء، في زفّة تستمرّ مشيًا على الأقدام وصولًا إلى منزل العروس، تُرَدَّد خلالها أهازيج عدّة مثل: “ركّزوا البارود في باب العمود، يا فلان مسنود بعزوة قويّة”.
“لاطلع عالطيّارة فوق وأحلحل براغيها، والعرسان أشكال ألوان يا فلان يا محلّيها”.
“شو غنّت وشو قالت إمّ العريس أبو جْرافِة مَكْوِيِّة فوق القميص… شو غنّت وشو قالت إمّ العرسان أبو جرافة مكويّة فوق القمصان”.
“قومي اطلعي، قومي اطلعي لحالك… واحنا حطّينا حقوق أبوكِ وخالك… قومي اطلعي قومي اطلعي لبرّا… واحنا حطّينا حقوق أبوكِ من مرّة”.
“أعطونا عروستنا وخلّونا نروح… بلدنا بعيدة وبتاكلنا الوحوش، أعطونا عروستنا وخلّونا نمشي… بلدنا بعيدة وبتاكلنا الوحشة”.
سيل من الأهازيج الشعبيّة الفلسطينيّة تصدح بها الحناجر على مدار ساعات في منازل المدينة، وما زالت تتردّد حتّى اليوم في بعض أفراح القدس، خاصّة في قرى بيت صفافا، وشرفات، وصور باهر، والعيساويّة، وجبل المكبّر.
مع مرور السنين بدأت طقوس الأفراح تختلف، ليس من ناحية جوهريّة، وإنّما بإضفاء لمسة من الحداثة عليها، بما يتناسب مع التوجّهات الدينيّة والاجتماعيّة المتنوّعة للمقدسيّين.
الإنشاد الإسلاميّ… ابن الصوفيّة
بعض المقدسيّين مثلًا يفضّل فرق الأناشيد الإسلاميّة لإحياء حفلات الزفاف في قاعة الرجال، ولعلّ «فرقة البراق للنشيد الإسلاميّ والفنّ الشعبيّ»، واحدة من أهمّ الفرق الّتي تأسّست في ثمانينات القرن الماضي في القدس، واقتصر عملها آنذاك على إحياء المناسبات الدينيّة من موالد ومهرجانات، ليتطوّر انخراطها في المجتمع المقدسيّ من خلال إحياء الأعراس الإسلاميّة والمناسبات الاجتماعيّة.
أحد أعضاء الهيئة الإداريّة في الفرقة، والمنشد الرئيسيّ فيها، المقدسيّ عبد الرحمن دنديس، قال إنّ انخراطه في عالم الإنشاد الإسلاميّ بدأ منذ نعومة أظفاره، عندما كان يتردّد على الزاوية الأفغانيّة في البلدة القديمة بالقدس، وينصت هناك بعمق للأناشيد والابتهالات الصوفيّة، وسار لاحقًا على درب الفنّ الملتزم.
وأضاف في حديثه إلى فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة أنّه مع مرور السنين، وجدت الفرقة نفسها مضطرّة إلى تقديم الفنّ الشعبيّ، إلى جانب الإنشاد الإسلاميّ في الأفراح، لمواكبة التطوّر، “أدخلنا الفنّ الشعبيّ بطريقة هادفة؛ إذ نغنّي الآن الدحيّة والبدّاويّة، لكن بكلمات نؤلّفها نحن بما يتماشى مع اللحن، ونهتمّ بأن يكون الكلام موزونًا وغير مُخِلّ بالعادات والتقاليد والأخلاق”، على حدّ تعبيره.
ومع انطلاقها في هذا المجال، وجدت الفرقة نفسها مضطرّة إلى إدخال آلة الأورغ والإيقاع إلى حفلاتها، عدا الدفّ الّذي يرافقها في الأناشيد الإسلاميّة، “بعض الأشخاص شديدو التديّن يطلبون إحياء أفراحهم بالأناشيد الإسلاميّة مع مرافقة للدفّ فقط، وآخرون يطلبون أن ينطلق حفل الزفاف بأنشودة روحانيّة، ثمّ بالأغاني الشعبيّة الفلسطينيّة، ونحن نلبّي الطلبات بما لا يتعارض مع مبادئ الفنّ الملتزم”.
تتكوّن الفرقة من تسعة منشدين وعازف أورغ، وتصدح حنجرة عبد الرحمن دنديس بالأغنيات والأناشيد المختلفة، ويردّدها ثمانية منشدين خلفه.
مقاطعة القاعات الإسرائيليّة
شكل فنّيّ شعبيّ آخر يختلف بشكل كلّيّ عمّا تقدّمه «فرقة البراق»، ما تقدّمه فرقة «جو» الّتي تأسّست عام 2017 بثمانية أعضاء، ارتفع عددهم الآن ليصل إلى 28 شابًّا بين عازف وراقص.
حسب سامر أبو عيشة، أحد أعضاء الفرقة، قال إنّ تسميتها بـ «جَوّ» نبعت من أنّ مؤسّسيها خرجوا من إطار العزف والرقص على المسرح، واستبدلوا ذلك فذهبوا إلى بيوت الفلسطينيّين، وشاركوهم حفلات الزفاف، ومن ثَمّ رسم وابتكار لـ «جوّ» خاصّ بمكان الفرح.
تَشَكُّل الفرقة وانطلاقها لم يأت بالصدفة وفقًا لأبي عيشة، الّذي قال إنّهم أجروا دراسة للسوق ووجدوا تصدّر الزفّات المصريّة والسوريّة للمشهد في الأفراح الفلسطينيّة؛ فقرّروا الانطلاق بفرقة تحيي الزفّات والأفراح باللمسة التراثيّة الشعبيّة الفلسطينيّة، “نحن بالطبع لسنا ضدّ الطابع المصريّ والسوريّ في الزفّات، خاصّة أنّنا – بالإضافة إلى كلٍّ من سوريا والأردنّ ولبنان – نتقارب في الكلمات والدبكة التراثيّة، لكن أحببنا أن يكون للزفّة الشعبيّة الفلسطينيّة مساحة في أعراسنا”.
استعان أعضاء الفرقة بأراشيف «مركز الفنّ الشعبيّ» و«فرقة الفنون الشعبيّة» الغنيّة بالكلمات والموسيقى التراثيّة والشعبيّة، وأعادوا إنتاجها بما يليق بالأفراح.
يضيف أبو عيشة: “تميّزنا باستخدام أغانٍ وكلمات تراثيّة ليست مألوفة للجميع، وكان أجدادنا قديمًا يردّدونها باستمرار، فأعدنا إحياء هذه الأهازيج”.
وعن الشريحة الّتي تطلب عروض فرقة «جوّ» في أفراحها، قال إنّ حفلات الزفاف المختلطة هي مَنْ تحييها الفرقة عادة؛ لأنّ دورها لا يقتصر على الزفّة أمام منزلَي العروس والعريس أو مدخل القاعة، بل ينفّذ الشبّان استعراضات أخرى خلال الحفل، كرقصة أصدقاء العريس وتجلاية العروس وغيرهما.
تطرّق الشابّ المقدسيّ إلى بعض الخطوط الحمر المتّبعة في «مطبخ جوّ» كما يسمّيه، قائلًا إنّ الفرقة ترفض إحياء أيّ حفل زفاف في القدس، يُقام في قاعات إسرائيليّة، مضيفًا أنّ الفرقة جابت جميع المحافظات الفلسطينيّة في عروضها، باستثناء غزّة بطبيعة الحال.
“طلع الزين من الحمّام، الله واسم الله عليه… طلّ الزين كحيل العين أهلا وسهلا بهالطلّة”.
“قولي لي وين ربيتي يا وردة على النبعة، وأنا ربيت ببيت أبوي وإخوتي ستّة سبعة… قولي لي وين ربيتي يا عوينات الغزالة، وأنا ربيت ببيت أبوي بالشرف والدلال”.
هذه الأهازيج الشعبيّة وغيرها تردّدها فرقة «جوّ» أمام منزل العريس، ثمّ أمام منزل العروس، قبل التوجّه والمدعوّين إلى قاعة الأفراح.
ورغم حرص الفرقة على الالتزام بالأغاني التراثيّة الفلسطينيّة، إلّا أنّ الراقصين يدمجون فنون رقص أخرى مع الدبكة الشعبيّة الفلسطينيّة.
في التراث قيمٌ عالية
المحامية المقدسيّة أسيل الأشهب، الّتي تعمل في قضايا الأحوال الشخصيّة في المحاكم الشرعيّة، والمهتمّة بمجال الفنّ بشكل عامّ، والموسيقى والإنشاد بشكل خاصّ، كان لها نصيب من إحياء أعراس القدس خلال السنوات الأخيرة أيضًا.
اكتشفت معلّمة الموسيقى موهبة أسيل مبكّرًا، وحرصت عائلتها على تطوير هذه الموهبة من خلال التحاقها بدورات موسيقيّة عدّة، وبعد انقطاعها لسنوات عادت، والتحقت بـ «معهد إدوارد سعيد الوطنيّ للموسيقى» في القدس، وهناك انطلقت في مجال الغناء.
“أوّل مرّة غنّيت في حفل زفاف صديقة لي في مدينة طولكرم شمال الضفّة الغربيّة، وأبرزت من خلال الغناء الهويّة الثقافيّة العربيّة والفلسطينيّة، كانت تجربة لا تُنْسى، تلقّيت بعدها ردودًا إيجابيّة وطلبات أخرى للغناء في حفلات زفاف، لكنّني حتّى الآن لا أغنّي إلّا في أعراس المقرّبين”.
“قولوا لأمّه تفرح وتتهنّى ترش الوسايد بالعطر والحنّة”.
“ها لا لا ليّا عيني يا فلسطينيّة، يا نار قلبي اشعليها واشوي لحم نيّا”.
ولإيمانها بأنّ الموروث الثقافيّ الفلسطينيّ جزء لا يتجزّأ من الموروث الثقافيّ العربيّ؛ تحرص الأشهب على أداء أغانٍ عربيّة، وتميل إلى المصريّة والمغربيّة، ويجذبها كلّ ما له صلة بالماضي كأغنية “تمختري يا حلوة يا زينة يا وردة من جوّا جنينة”، و”زفّوا العروس زفّوها على الورد مشّوها”.
تعتبر الأشهب أنّ للفنّ الملتزم دورًا مهمًّا في ترسيخ هويّة المرء، وتحريك قلوب البشر نحو المبادئ السامية والقيم العالية، وتسعى إلى المضيّ في هذا الطريق؛ فبالإضافة إلى إحيائها حفلات زفاف بالأغاني المبهجة القديمة، تصدح حنجرتها بالقصائد والموشّحات المغنّاة في مناسبات اجتماعيّة وثقافيّة عدّة في القدس.
كانت هذه نماذج للتجارب الإبداعيّة في مدينة القدس، الّتي تساهم في صناعة فرحها عبر أعراسها ومناسبتها الاجتماعيّة أخرى، وهم وغيرهم، سبب من أسباب صمود أهل المدينة المعنويّ، في زمنٍ يُحارب القريب قبل المستعمِر الغريب وجودهم فيها.
دامت الأفراح في دياركم العامرة.
أسيل الجندي – عن عرب 48