شرفة
نحو معالجة اقتصادية لازمة ما بعد كورونا
كتب مازن توفيق سنقرط : يواجه العالم اليوم ازمة غير مسبوقة القت بظلالها على جميع مناحي الحياة، هذه الازمة كانت نتاجاً لما يعرف حالياً بفايرس كورونا المستجد، ولعل الحديث هنا يدور بالمفهوم العلمي عن كارثة حقيقية بكل معنى الكلمة، اذ ان الازمة الراهنة ما هي الا نتاج او وجه صغير من أوجه تلك الكارثة التي امتدت لتعصف بمناحي الحياة الصحية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية على حد سواء، وفي ظل حديثنا عن هذه النواحي فإننا نتحدث عن ضرب لمفاهيم التنمية المستدامة بكافة اشكالها والتي سخر العالم لها إمكانات هائلة منذ مطلع الثمانينات من القرن المنصرم وذلك بغية ضمان التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية في الحاضر مع الحفاظ على حقوق الأجيال المستقبلية، هذه المفاهيم أصبحت اليوم في حكم الأطر النظرية البعيدة المنال في ظل بحث العالم عن مخرج حقيقي يرمم وضعه القائم لا البحث عن خيارات تضمن للأجيال المستقبلية حقها في التنمية، وتعتبر فلسطين احد تلك البلدان التي تأثرت بهذه الكارثة بكافة مضامينها وجوانبها، الا ان ما يميز القيادة الفلسطينية هي وعيها الاستباقي المبكر في التعاطي مع هذه الكارثة من مرحلة الإنذار المبكر التي بدأت عشية ظهور بعض الإصابات في بيت لحم فأعلنت عن مجموعة من الخطوات والتدابير التي سبقت بها اعظم البلدان المتقدمة، هذه التدابير الاحترازية التي اتخذتها الحكومة الفلسطينية تعتبر تدابيرا قاسية بالنظر الى الحالة الفلسطينية الهشة في أنظمتها الاقتصادية والاجتماعية والصحية والتي تعاني من ضعف حقيقي في بنيتها، الا ان ما ميز الحالة الفلسطينية عن غيرها هو راس المال البشري المتقدم في كافة الأصعدة والذي يضاهي في مهاراته وقدراته العلمية والفكرية العديد من الدول الرائدة بل ويسهم في بنائها، وبالرغم من قسوة الإجراءات المتخذة من قبل دولة ترزح تحت نير الاحتلال الذي شكل عائقا ولا زال في وجه كافة التوجهات التطويرية الفلسطينية وانفاذها، الا ان الحكومة قد استطاعت الوصول الى نقطة متقدمة في مكافحة انتشار الفيروس وتقييده بحكم حالة الطوارئ المعلنة والإجراءات الاحترازية المتخذة ومرونة التعاطي مع المتغيرات الميدانية التي دعمتها باطار قانوني طارئ قد سمح بتسخير المقدرات المتواضعة من اجل مجابهة هذه الكارثة التي لازلت اعتى الدول في صراع مع مواجهتها، الا اننا وفي ظل هذه الإجراءات قد نصل الى حالة تفقدنا القدرة على التحمل والاستمرار في الاجل الطويل اذا ما استمرت سيرورة الأمور على حالها في الجانب الاقتصادي والذي يعتبر شريان الحياة للسكان الفلسطينيين الذين يعانون من اكبر معدلات للبطالة عالميا، ففي ظل توقف عجلة الإنتاج الراهنة بحكم هذه القيود وتعطل العاملين في منشآت القطاعين العام والخاص وعدم قدرة القطاع الخاص على الاستمرار في تغطية أجور العاملين به لأكثر من شهرين يطرح التحدي الأكبر المتمثل بطبيعة الخطوات القادمة التي يجب علينا البدء بها وما هو التصور الممكن لإعادة عجلة الإنتاج الى مسارها الصحيح، ففي حالة قدرة الحكومة على السيطرة على هذا الوباء او التخلص منه فإننا نواجه حتما مرحلة جديدة بأشكال جديدة تطلب رؤية جديدة وحكيمة ومرنة كما كانت رؤية الحكومة منذ بداية هذا الوباء، هذه الرؤية يجب ان تستند الى مجموعة مرتكزات تتكاتف في تنفيذها كافة الاطياف المجتمعية كوسيلة لإنقاذ المجتمع الفلسطيني من التردي المنتظر في حالة الإخفاق في تنفيذها، ولعلي هنا اود التركيز على عصب الحياة للمجتمع الفلسطيني والمتمثل بالجانب الاقتصادي الذي يعتبر أساسا لسيرورة واستقرار الجوانب الأخرى وخصوصا السلم المجتمعي، فمؤشرات الوضع الراهن تشير الى وجود حالة هائلة في العجز الحكومي وتردي القدرة على الانفاق العام في ظل التوقعات التي تشير الى انخفاض متوسط الإيرادات الشهرية للسلطة الفلسطينية من 286 مليون دولار الى 143مليون دولار شهريا فقط وهو ناتج عن تراجع قيم الأموال المحصلة بنسبة لا تقل عن 50% بفعل تراجع حركة الاستيراد الخارجي، هذا بالإضافة الى تراجع قيم إيرادات الضرائب والجمارك والرسوم التي يدفعها المواطن والمؤسسات المحلية بأكثر من 95% ( 5%) تقوم بسدادها شركات الخدمات الكبرى العاملة في مجالي الاتصالات والقطاع المالي، كما ان تعطل عجلة الإنتاج في القطاع الخاص وتوقف معظم المنشآت وتعطل العمالة وهو ما اشارت اليه بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني التي أعلنت ان عدد المنشآت العاملة في ظل قرار مجلس الوزراء بتوقف العمل في العديد من الانشطة الاقتصادية 37,336 منشأة من أصل 142,400 منشأة تعمل في فلسطين والتي أصبحت تشغل 105,345 عامل من أصل 424,904 عامل يعملون في منشآت القطاع الخاص والأهلي، هذه المؤشرات لها دلالات عميقة حول طبيعة المستقبل الذي ينتظر المجتمع الفلسطيني والذي قد يصل به الحال للوصول الى معدلات غير مسبوقة من البطالة بإضافة ما لا يقل عن 250 الف عامل لصفوف العاطلين الجدد لتصل معدلات البطالة الى ما يقرب من 40% ومزيدا من التراجع في الإيرادات العامة بفعل حالة الركود الاقتصادي المتوقعة محليا وعالميا وارتفاع معدلات التضخم بصورة أكبر وذلك ارتباطا بتراجع سلسلة الإمدادات عالميا، اذ قد تبدأ أسعار بعض السلع الرئيسة في الارتفاع لما بعد الربع الثاني 2020، خاصة سلع الدقيق والأرز والسكر، وظهور ما يسمى بالركود التضخمي، أي ارتفاع أسعار وطلب ضعيف، كل هذه التوقعات واردة في المشهد الفلسطيني اذا لم يتم السير وفقا لرؤية ممنهجة لإعادة التعافي من اثار الازمة بطريقة سليمة تضمن الحد الأدنى من المتطلبات اللازمة لإبقاء قدرة القطاع الخاص على الاستمرار، هذه الطريقة يمكن تأطيرها في مجموعة من الملامح العامة التي يمكن ايرادها على النحو التالي:
– العمل برؤية مشتركة بين كافة أطياف ومكونات المجتمع الفلسطيني بدءا من الحكومة والقطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني لتقديم المصلحة الاقتصادية العامة على الاعتبارات الخاصة وخوصا فيما يتعلق بقضايا الربح والخسارة او تحقيق المنافع، وفي هذا الاطار اود التركيز على اهم مكونات القطاع الخاص الفلسطيني وهو القطاع المصرفي الذي تشير التقديرات الى ان اجمالي حجم الودائع المحلية الخاصة به تقارب من 14 مليار يتم استغلال ما يقرب من 60% منها محليا والنسبة المتبقية تذهب لاستثمارات خارجية ترتبط باتجاهات تحقيق الأرباح لصالحها، هذا القطاع الذي طالما شكل صمام الأمان للمجتمع الفلسطيني والذي نكن له كل التقدير على قدرته الهائلة على الاحتفاظ بمستويات متقدمة عالميا من حيث التعاطي مع كافة المخاطر التي تواجهه، فاليوم اصبح القطاع المصرفي هو الركيزة الأهم التي يجب البناء عليها لضمان مواجهة التحديات الاقتصادية ما بعد كورونا، وفي هذا الاطار فإنني اقترح توفير محفظة تسهيلات ماليه بقيمة 500 مليون دولار، من قبل الجهاز المصرفي وذلك ارتباطا بالحاجة الوطنية لضخ الأموال الفلسطينية داخل فلسطين كبديلاً عن الاستثمارات او الايداعات الخارجية التي يقوم بها الجهاز المصرفي من جهة وارتباطا بالإرباك الراهن بالبيئة الاستثمارية الدولية والتي فرضت معادلة جديدة على طبيعة تلك الاستثمارات التي قد تقلص فرص الحصول على العوائد المتوقعة لتلك المصارف من تلك الاستثمارات ارتباطا بحالة التراجع في الأسواق المالية والركود العالمي المتوقع، وبالتالي فان ضخ تلك الأموال محليا على شكل تسهيلات تقدم للقطاع الخاص الفلسطيني بضمانات دولية ومحلية قد تشمل هذه الضمانات ما نسبته 60% من قبل جهة خارجية كبنك الاستثمار الأوروبي وبنك التنمية الإسلامي او مؤسسة التمويل الدولية والنسبة المتبقية على ان يتم تخصيص هذا القرض لمنح التمويل للمشاريع الصغيرة والمتوسطة بحد أدني 10 الاف دولار وبحد اقصى 150 ألف دولار للمشروع وفي إطار فترة سماح تصل الى عام من اجل إعادة إنعاش الحركة الإنتاجية الاقتصادية، على ان تقوم تلك المصارف بإدارة هذا القرض، هذه المبالغ ستسهم في التعويض الجزئي لحجم الخسائر الاقتصادية وإعادة انعاش عمل القطاع الخاص بفعل مضاعف حركة الاستثمار في الدورة الاقتصادية الفلسطينية بما لا يقل عن مليار دولار خلال المرحلة الأولى من تقديم الحوافز.
– ان العمل بالحس الوطني يتطلب تكاتف الجميع والنظر الى المصلحة الوطنية باعتبارها الأولوية على تحقيق الأرباح وبالتالي فان قيام المصارف بالتعاون مع سلطة النقد الفلسطينية بالاكتفاء بحجم أرباح منطقية مقابل تقديم وإدارة هذا القرض باعتبارها من اقل القطاعات المتضررة نتيجة للازمة الراهنة بالاتفاق مع سلطة النقد على تحديد نسب معينة من هوامش الأرباح على الإقراض بحيث لا تزيد عن 5% من التكلفة كحد اقصى وذلك بغية السير في اطر السياسة النقدية التوسعية الهادفة الى تشجيع الاستثمار وتسهم في تحريك العجلة الاقتصادية.
– ان التخفيف من الإجراءات المقيدة للعجلة الإنتاجية يعتبر من التوجهات الصائبة التي من الممكن ان تسلكها الحكومة في المستقبل القريب في اطار موازنتها ما بين الإجراءات الاحترازية وفي ذات الوقت الضمان النسبي للبدء بعملية إعادة التشغيل للقطاع الخاص، هذا التوجه يمكن السير باتجاهه في اطار التقسيم الجغرافي للمناطق الفلسطينية، وفي اطار علاج منطقي لطبيعة التحركات المرتبطة بالعمالة المحلية، اذ يمكن تنسيق هذا الجانب مع القطاع الخاص الفلسطيني العامل في المناطق الجغرافية المتنوعة التي يثبت خولها من الوباء خلال الفترة الزمنية القادمة، على ان تتم عملية التشغيل وفقا لشفتات عمل منظمة ومنسقة مع وزارة العمل وبضمان من قبل المشغل بإعادة العاملين الى منازلهم، اذ من الممكن ان يتم اتخاذ الإجراءات الاحترازية من قبل السلطة الفلسطينية بتوقيتات تضمن التشغيل النسبي للعمالة مع ضمان العودة الى الحجر الاحترازي خلال الساعات المحددة لانتهاء العمل في تلك المؤسسات بضمان المشغل هو ما يعتبر بداية هامة لإعادة تحريك عملية الإنتاج وفي ذات الوقت المحافظة على الاطر الاحترازية التي تضمن العودة في توقيت تلك الإجراءات المقرة بضمان المشغلين. السير باتجاهها
– وأخيرا فان فكرة التوجه لأنشاء البنوك التخصصية الداعمة للقطاعات الإنتاجية المتنوعة تعتبر من الأفكار الهامة التي يمكن الشروع باتجاهها وتأطيرها على ارض الواقع في الاجل المتوسط وذلك بتبني التوجه لإنشاء بنك انمائي يخصص للعمل في إطار إدارة الأموال الخاصة بدعم القطاعات الاقتصادية الفلسطينية التي من الممكن العمل على حشدها من الجهات المانحة بهدف تقديم الدعم للقطاع الخاص الفلسطيني والاعتماد على إدارة وتشغيل هذا المصرف على خبرات موظفي السلطة وإعادة تشغيل جزء منهم في إطار هذا المصرف.
ان هذه الرؤية تعتبر بمثابة اللبنة الأولى التي تؤسس لإقرار خطة انقاذ اقتصادية وطنية تفصيلية قد تسهم في بلورتها كافة الأطر المجتمعية والمكونات الفاعلة في فلسطين ايمانا بمبدأ الشراكة الحقيقية والمستقبل الواحد، فهذه المرحلة تتطلب جهدا جماعيا يشارك فيه كافة الخبراء من كافة الأطراف والجهات الفاعلة من اجل إقرار الخطوات التنفيذية التفصيلية المرتبطة بتلك الخطة سواء تعلق الامر بالقطاع العام او الخاص او مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الدولية الفاعلة.