شرفة

2020: هل يكون عام التغيير؟‎

كتب هاني المصري: غدًا، يبدأ العام الجديد، والآمال كبيرة على أن يشهد بداية التغيير القادر على نقل الوضع الفلسطيني مما يعيش فيه إلى ما نصبو إليه، لأن عدم حدوث التغيير ينذر بالانهيار الكبير. فهل سيحدث التغيير الذي سينهض من خلاله الفلسطينيون أم سيقع الانهيار المروع؟ هذا السؤال بحاجة إلى الإجابة عنه. فالتغيير لن يحدث وحده، ولن يقوم به القديم وأدواته، بل بحاجة إلى وعي جديد وأدوات قادرة على إحداثه.

لمعرفة ما يمكن أن يحدث، لا بد من إدراك أن الوعي والإرادة يمكن أن يحققا ما يبدو مستحيل التحقيق. صحيح أن المستقبل يعيش في بطن الحاضر، والحاضر مليء بما يسرّ ولا يسرّ، وتتحكم به حالة من التوهان الفلسطيني ناجمة أساسًا عن استمرار الانقسام وعدم تخلي طرفيه عن الأسباب والجذور التي أوصلتنا إليه، وإلى الطريق المسدود، وجرّاء طغيان الصراع على المصالح والمكاسب والوظائف، وعلى السلطة والتمثيل، على كل شيء آخر.

فالطرف الأول وصلت إستراتيجيته إلى سلطة حكم ذاتي نهائي على معازل مقطعة الأوصال، ومطلوب منها التعايش مع استمرار الاحتلال والعدوان بكل أشكاله، وعلى رأسها الاستعمار الاستيطاني الزاخف نحو ضم قانوني لمعظم أراضي الضفة الغربية، بما فيها القدس، على أن يكون التفاوض مع السلطة حول قضايا إنسانية وإدارية وأمنية، بعيدًا عن السياسة ومفاوضات الوضع النهائي.

وبدلًا من مراجعة القيادة الفلسطينية لهذا المسار المدمر، لا تزال تكتفي بالتهديد بالتخلي عنه كتكتيك، عبر استخدام إستراتيجية التدويل التي حققت إنجازات مهمة، كالاعتراف بالدولة وفتوى محكمة لاهاي وقرار المحكمة الجنائية الدولية، على خلاف ما يحدث على أرض الواقع من تعميق للاحتلال وتنفيذ الخطة الأميركية الإسرائيلية لتصفية القضية الفلسطينية من مختلف أبعادها؛ وذلك بدلًا من اعتماد مسار جديد، من أجل إعادة إنتاج المسار الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه. مسار الرهان على المفاوضات عبر تقديم التنازلات ومن دون أوراق قوة، وليس عبر اعتماد إستراتيجية قادرة على تغيير موازين القوى، خطوة خطوة، ومراكمة الإنجازات حتى إنجاز الحقوق الوطنية.

أما الطرف الثاني، فقد وصلت إستراتيجيته أيضًا إلى طريق مسدود رغم اختلاف الأسباب وبغض النظر عن النوايا، بدليل أن قطاع غزة أصبح أطول وأكبر سجن في التاريح تحكمه سلطة محاصرة، وبات أكثر ما يهمها السعي للاعتراف بها، والمنافسة على تمثيل الفلسطينيين، والتوصل إلى هدنة طويلة مقابل رفع الحصار، انتظارًا لتغييرات قد تحدث أو لا تحدث لتجاوز هذا الوضع.

هناك العديد من المؤشرات والدلائل والإرهاصات، الفلسطينية والإسرائيلية والعربية والإقليمية والدولية، التي تؤكد أن العام الجديد سيشهد متغيرات قد تغيّر المشهد كليًا إلى الأمام والأحسن، أو إلى الخلف والأسوأ. فهناك تقديرات أنّ حدّة التنافس بين القوى الكبرى، وخاصة الصين والولايات المتحدة، ستزداد، ما دفع بعض الخبراء، وعلى رأسهم الدكتور طلال أبو غزالة، إلى توقع نشوب أزمة اقتصادية كبرى في العام القادم تتلوها حرب عالمية ثالثة عسكرية صينية أميركية ويتلوها نهوض كبير، تهدف من خلالها إدارة ترامب إلى إجبار الصين إلى الجلوس على طاولة المفاوضات لإقامة نظام عالمي جديد ثنائي القطبية؛ لقطع الطريق على سيطرة أحادية صينية إذا استمرت معدلات النمو الاقتصادي والتكنولوجي الصيني أكبر بكثير من مثيلتها الأميركية.

وفي نفس الوقت، تشهد المنطقة والإقليم صراعات حادّة على النفوذ والأسواق والثروات، خاصة النفط والغاز، يمكن أن تنذر بحروب ومواجهات إقليمية، مركزها ليبيا وإيران والعراق وسوريا واليمن، وسط تنافس بين مشاريع إسرائيلية تركية إيرانية لها امتدادات دولية، تعكس تراجع الدور الأميركي وتقدم دور الأطراف الإقليمية وروسيا والصين، في ظل غياب مشروع عربي، مما سيكون له تداعيات وخيمة، مع أن الأمل موجود باندلاع موجة ربيع عربي ثانية، نأمل أن يكون مصيرها أفضل من سابقتها، خصوصًا إذا ميّزت نفسها بوضوح عن المؤامرة التي تستهدف إبقاء المنطقة العربية أسيرة التبعية والتخلف والتجزئة. وتدل هذه الموجه على أن الوضع العربي لا يمكن أن يبقى على ما هو عليه، وسيشهد موجات تلو موجات إلى أن يحصل النهوض العربي العظيم.

من المحتمل أن تشهد الساحة الفلسطينية موجة ربيع إذا استمر الانسداد الكبير. وفي كل الأحوال، من شبه المؤكد أن المشهد الفلسطيني في العام الجديد لن يبقى على حاله، بل سيتقدم إلى الأمام، أو يتقهقر إلى الخلف.

فعلى سبيل المثال إذا جرت الانتخابات في العام 2020 ضمن رزمة شاملة – وهذا مستبعد حتى الآن لكنه محتمل – تتضمن إنهاء الانقسام والاتفاق على أسس الشراكة سيسير الوضع إلى الأحسن، وإن جرت من دون إنهاء الانقسام وتوحيد المؤسسات، أو إذا لم تجر بالمرة، فستقضي على ما تبقى من شرعية ومصداقية للسلطة التي تآكلت مؤسساتها، وجَمَعَ فيها الرئيس (والسلطة التنفيذية) كل السلطات والصلاحيات بين يديه، خصوصًا بعد حل المجلس التشريعي، ومذبحة القضاء، وتفشي الفساد، واستمرار التجريبية والارتجال من بناء مؤسسات الدولة تحت الاحتلال إلى الانفكاك الاقتصادي عنه عبر نظرية العناقيد، إلى جانب انتهاكات حقوق الإنسان.

ولا ينفع التهرب من الانتخابات وتأجيل صدور المرسوم الرئاسي بذريعة عدم الحصول على الضوء الأخضر الإسرائيلي لإجراء الانتخابات في القدس، لأن صدوره يضغط على إسرائيل، ولا يُلزم بإجرائها من دون القدس، مع العلم بإمكانية إجرائها من دون الموافقة الإسرائيلية إذا تم التعامل معها باعتبارها معركة نضالية يمكن الفوز فيها. وحاليًا، من الصعب صدور الموافقة الإسرائيلية، خصوصًا في ظل أجواء المنافسة للانتخابات الإسرائيلية الثالثة التي ستجري في الثاني من آذار 2020.

الأقرب إلى الحقيقة أن هناك – على ما يبدو – قرارًا رئاسيًا بتجميد إجراء الانتخابات حتى إشعار آخر. ويعود ذلك إلى أسباب عدة، منها الخشية من نتائجها، خصوصًا في ظل عدم جهوزية حركة فتح، واشتداد حرب الخلافة، في ظل عدم وضوح آلية انتقال السلطة في حال شغور منصب الرئيس، وعدم حسم الرئيس بأنه سيخوضها أم لا، وإذا خاضها هل سيفور فيها أم سيخسر، إلى جانب احتمال خوض حركة فتح الانتخابات بقوائم متعددة.

ومنها انتظار تشكيل الحكومة الإسرائيلية بعد الانتخابات، على أمل أن تحمل في نتائجها فوزًا لبيني غانتس ومعسكره (رغم أن الاستطلاعات حتى الآن تشير إلى نفس النتائح التي حالت دون تشكيل الحكومة في المرتين السابقتين)، لا سيما في ظل وجود رهان فلسطيني على إمكانية أن يؤدي فوز غانتس إلى استئناف العملية السياسية، وفتح نافذة لتحسين العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية، في ظل أن هناك مكانًا لتعزيز السلطة في برنامج حزب “أزرق أبيض” على أساس ذات لاءات الإجماع الإسرائيلي المعروفة، وسياسة إسرئيلية أشد ضد سلطة “حماس”، وما يعنيه ذلك من تزايد احتمال شن عدوان جديد على قطاع غزة.

وأما إذا فاز بنيامين نتنياهو ومعسكره، فهذا يعني تزايد، وليس حتمية، فرصة عقد هدنة طويلة بين “حماس” وإسرائيل، وما قد تؤدي إليه من تسارع تحول الانقسام إلى انفصال، إضافة إلى تطبيق برنامجه، الذي يتضمن كما أعلن بعد فوزه برئاسة الليكود، ضم الغور وشمال البحر الميت والكتل الاستيطانية، والحصول على الاعتراف الأميركي بذلك. كما سيسعى لعقد معاهدة دفاع مشترك مع الولايات المتحدة، وصد إيران نهائيًا، وإقامة تطبيع وتوقيع معاهدات سلام مع الدول العربية.

ويضاف إلى أسباب تجميد إجراء الانتخابات، رهان الرئيس على أن “حماس” غير جاهزة لخوضها، وأنها سترفض الشروط التي طرحها، وبالتالي تتحمل المسؤولية عن عدم إجرائها. لكن “حماس” فاجأته بقبول الشروط، وهذا يرجع إلى رهان “حماس” على أن الرئيس لا يريد انتخابات، وإذا جرت فهي ستعطيها الشرعية وتحميها من عواقب نجاح غانتس، وتمثّل مخرجًا من مأزقها المستحكم الناجم عن عدم القدرة على الجمع ما بين المقاومة المسلحة والسلطة، إذ أصبحت المقاومة وسيلة لإحراز الهدنة وحماية السلطة أكثر ما هي وسيلة لتحرير فلسطين.

في ظل غياب المشروع الوطني المشترك والإطار الجامع والقيادة الواحدة، تطفو على السطح الصراعات الثانوية، وتصبح “حارة كل من إيده إله”، وتتراجع المؤسسات الوطنية في السلطة والمنظمة، والأحزاب والنقابات والاتحادات، وسيادة القانون، وتتقدم الفردية والعائلية والعشائرية والجهوية ومراكز القوى، ما يفتح الأبواب أمام الفوضى وأخذ القانون باليد.

ولعل ما حصل بخصوص اتفاقية سيداو مجرد دليل حيّ على ذلك. فقد وافقت السلطة على الاتفاقية من دون تحفظات، ولم يسبقها حوار وطني، ثم وجدت أنها لا تستطيع أن تكيّف القوانين الفلسطينية انسجامًا معها، وعندما لوّحت بذلك عبر رفع سن الزواج إلى 18 عامًا، وُوجِهَت بحركة اجتماعية كبيرة، تقودها العشائر، ويغذيها حزب التحرير في الواجهة، وغيره من وراء ستار، وبمفاهيم وعادات راسخة تتصور أن المساواة بين المرأة والرجل ضد الدين، وما هي كذلك.

يبقى الأمل معلقًا بالشعب الفلسطيني، فهو كان عبر التاريخ مثل طائر الفينيق الذي ينهض من تحت الرماد، وهو وحده القادر على إحداث التغيير ما دامت القيادات المتحكمة تقاوم التغيير، بينما القوى الأخرى عاجزة عن النهوض به. ونحن في عالم ثورة الذكاء الاصطناعي، وفاعلية وسائل التواصل الاجتماعي، التي فتحت الباب لأشكال من العمل السياسي والجماهيري غير مسبوقة وغير تقليدية، تأخذ فيه الحراكات الشعبية دورًا قياديًا في إحداث التغيير المطلوب.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى