كتب مايكل يونغ – مدير تحرير في مركز كارنيغي للشرق الأوسط : بالتأكيد. ومع بدء شتاء العام 2020، غالب الظن أن تجتاح موجة السخط الشعبي هذه دولاً أخرى. في هذه الموجة، تُعتبر الظروف الاقتصادية الكامنة هي الفارق الأبرز الذي يميّزها عن سابقتها. ففي العام 2011، كانت أسعار النفط في ذروتها وكانت الاقتصادات تشهد أسرع وتيرة من النمو منذ عقود. لكن الوضع الاقتصادي بات أصعب بكثير في الوقت الراهن، نظراً إلى انهيار أسعار النفط بعد العام 2014. فقد تباطأ النمو، في ظل ارتفاع معدل الدين العام والبطالة. ولم يعد في متناول الأنظمة الحاكمة سوى موارد قليلة لتمويل شبكات الزبائنية. إذن، في حين أن التوق إلى الكرامة شكّل زاد الثورات السابقة، يبدو أن الجوع هو الدافع الأساسي للاحتجاجات الراهنة.
استقت الموجة الثانية من الاحتجاجات الدروس والعبر من الموجة الأولى. فالمتظاهرون لم يعودوا قانعين بإطاحة الحكّام السلطويين الطاعنين في السن، بل باتوا يستهدفون هياكل الدولة العميقة. لكنهم يحرصون في الوقت نفسه على تفادي الانقسام على أساس هوياتهم وانتماءاتهم، ويطالبون بتنظيم انتخابات جديدة يُعتد بها. أما التحدي الذي تواجهه كل دولة فيكمن في إيجاد المسار المؤدي إلى عملية انتقالية سياسية واقتصادية تُرضي الشارع. حتى تونس الماضية في الدمقرطة، لم تعثر بعد على السبيل للمضي قدماً. عجلة التاريخ تدور مجدّداً، لكن المقبل من الأيام لايزال طي المجهول.
شكّلت البطالة، ربما، دافعاً للتظاهرات والاعتصامات المتفرّقة التي شهدها العراق خلال العام 2019. لكن أحداثاً أخرى، مثل نقل الفريق الركن عبد الوهاب الساعدي من منصبه في جهاز مكافحة الإرهاب الذي يُعدّ من بين قوات النخبة، وردّ الحكومة بالقمع والقتل بحق المتظاهرين السلميين في 1 تشرين الأول/أكتوبر، أقنعت الجيل الجديد الذي لم يشهد بعد راحةً أو استقراراً بأنه يجب وضع حدّ للوضع القائم. هم اعتادوا على حرية التعبير والاحتجاجات، التي هي للمفارقة نتيجة الديمقراطية، وخرجوا إلى الشوارع مطالبين بحياة أفضل. فما يريدون هو التغيير الجذري، إذ إن نظام مابعد العام 2013 الذي أُرسي بعد العملية التي قادتها الولايات المتحدة للإطاحة بحكم صدام حسين الدكتاتوري القاسي، لم ينجح في بناء دولة عراقية آمنة ومستقرة ومزدهرة، على الرغم من الإيرادات النفطية الكبيرة. كان العراق الجديد يعتزّ بصونه أحد أشكال الديمقراطية المتمثّل في الحق في التظاهر. لذا، عندما قُتل عشرات المتظاهرين العزّل برصاص قناصّة جنّدوا بمباركة إيران، لم يعد بإمكان العراق الحفاظ على سمعته هذه.
الشباب العراقيون يرفضون كل النظام السياسي الذي يعتبرونه غير قابل للإصلاح. وهذه التظاهرات ليست “ربيعاً عربياً” آخر، ولا هي جزء من موجة ثورية إقليمية، بل هي انعكاس لسياق عراقي ضيّق لا ينطبق على تونس أو الجزائر أو مصر. فالاحتجاجات لم تستهدف بدايةً النفوذ الإيراني في العراق، لكن التعبير الجريء عن السخط حيال الجار الإيراني بات سمة بارزة للثورة العراقية، ما من شأنه أن يصبح الفتيل الذي يشعل حرباً أهلية أو يؤدي إلى حملة قمع شرسة. تحمل التظاهرات في بغداد والمحافظات الجنوبية بعض أوجه الشبه مع تظاهرات لبنان، لكن الرد شبه الفاشي لجهاز الأمن العراقي وعدد القتلى الكبير الذي يقارب راهناً 300 شخص، يُنبئان بعواقب وخيمة ومستقبل قاتم.
لم يلفظ الربيع العربي أنفاسه الأخيرة بعد، لكنه دخل في سبات عميق وحسب، وغلبته وحشية الأحداث في سورية وليبيا واليمن ومصر. تعود جذور هذه الموجة الثانية من التظاهرات الحاشدة إلى الانتفاضات العربية في العام 2011. مع ذلك، فقد ولّدت شيئاً مختلفاً، إذ إن تظاهرات العام 2019 تطوّرت بعد استيعاب بعض الدروس المستقاة من الانتفاضات السابقة. من الناحية المثالية، ترسّخ هذه الانتفاضات مقاومة القوة المُظلمة المدمّرة التي أربكت جيرانها. في لبنان والعراق، يشكو المتظاهرون من الطائفية (وهي محرك الصراع السوري)، بدلاً من الترويج لهوية وطنية أكثر حيوية. في السودان، ظهر اتفاق تقاسم هشّ للسلطة بين المعارضة المدنية والجيش بعد أشهر من التظاهرات الحاشدة التي انطلقت على خلفية ارتفاع أسعار الخبز. مع ذلك، جمعت الاحتجاجات دعماً شعبياً هائلاً، ولم ترضخ (كما في مصر) للإيديولوجيات المُقسِّمة، أو التنافس السياسي، أو حتى استخدام القوة. واظبوا واستمروا. لكن يبقى بعيداً كل البعد عن الوضوح ما إذا كان هذا الموسم الجديد من الاحتجاجات سيُحدث مزيداً من التغيير المستدام والسلمي، والمقاوم للعنف والفوضى. هذا وتُقدّم “البراعم الخضراء” في ثورات العام 2019 بعض الأسباب الدافعة للشعور بالأمل.
الدول الأربع التي اختبرت موجات احتجاجات في العام 2019 هي الجزائر والسودان والعراق ولبنان، وهي دول بقيت بمنأى عن “الربيع العربي” في العام 2011. في هذه الدول، كان الشعب لايزال مهزوزاً بسبب سنوات من الصراع والعنف السياسي. بيد أن موسماً جديداً من السخط انطلق، لكن هذه المرة، كانت الوسائل المستخدمة سلمية. وتتمثّل الأسباب الثلاثة الأساسية لذلك في أن الناس: أولاً تعلّموا من دروس ماضيهم وجيرانهم؛ وثانياً، هم يريدون الحفاظ على تحرّكهم في الوقت المناسب وجذب المزيد من المؤيدين على المستويين الوطني والدولي؛ وثالثاً، لايريدون منح حكوماتهم فرصة استخدام التكتيكات القمعية ضدّهم ووضع حدّ لتظاهراتهم الشعبية.
انطلقت هذه الموجة الجديدة من الاحتجاجات راهناً لأن الاستياء الاجتماعي يتنامى منذ سنوات، كما أن الأسباب نفسها التي أدّت إلى اندلاع انتفاضات العام 2011 لاتزال موجودة في المنطقة. إذا ما أُخذت الجزائر كمثال، فقد أدّى انخفاض أسعار النفط في منتصف العام 2014 إلى تدهور الوضع الاقتصادي، وبحلول العام 2019، وصلت الحكومة إلى نقطة لم تعد فيها قادرة على شراء السلام الاجتماعي كما فعلت في العام 2011.
علاوةً على ذلك، لم يكن للإصلاحات الشكلية أي أثر في معالجة القضايا الملحّة مثل البطالة والتهميش والفساد المتفشي. أما اليوم، فالمتظاهرون يريدون تغييراً حقيقياً وملموساً، كما أنهم لا يثقون بالأحزاب السياسية والمعارضة والطاقم السياسي القديم للقيام بذلك. لذا، من الجزائر حتى بيروت، الصرخة المطالبة برحيل الطبقة السياسية واحدة، والشعار واحد “كلن يعني كلن”.