إنّه موسم قطاف الزيتون. في خلاله، يتوجّه الفلسطينيون إلى حقولهم لجمع المحاصيل. إيمان من هؤلاء، غير أنّ المحتلّ يفرض عليها شروطه.
“معي تنسيق أقطف الزيتون، أرضي هنا”. بهذه الكلمات المقتضبة خاطبت إيمان الطويل البالغة من العمر 75 عاماً، واحداً من جنود الاحتلال الإسرائيلي المتمركزين على حاجز المحكمة عند المدخل الشمالي لمدينة البيرة الواقعة بجوار مدينة رام الله في وسط الضفة الغربية. فهو صوّب سلاحه تجاهها، صبيحة السابع والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأوّل المنصرم، على بُعد أمتار من أرضها. وحاجز المحكمة العسكري هذا يُعدّ واحداً من الحواجز الأكثر تشدّداً في الضفة، فهو يقع بالقرب من مستوطنة بيت إيل المقامة على أراضي شمالي البيرة.
طوال أربعين عاماً، حاول الاحتلال حمل زوج إيمان الطويل، الحاج دعاس الطويل، على ترك أرضه أو بيعها بعدما حصرها من ضمن حدود مستوطنة ومعسكر بيت إيل، حيث مقرّ ما يُسمّى “الإدارة المدنية” اليوم. وبعدما فارق الحاج دعاس الحياة قبل 22 عاماً، واصلت إيمان ما بدأه هو أي الحفاظ على الأرض رغم أنف الاحتلال وسياسته الطاردة. يُذكر أنّ قوات الاحتلال صادرت تلك الأرض لتشيّد عليها مقرّاً للإدارة المدنية التي تمنح الفلسطينيين تصاريح الدخول إلى أملاكهم، فتعلّق إيمان قائلة: “أخذوا أرضنا ليبنوا عليها مكاتب يطبعون فيها تصاريح دخولنا إلى الأرض نفسها التي صادروها!”.
وتتعرّض إيمان إلى الإذلال والإهانة في كلّ مرّة تريد فيها قطف الزيتون من أرضها المحاصرة البالغة مساحتها خمسة دونمات في داخل حدود مستوطنة بيت إيل، إذ إنّ الاحتلال لا يسمح لها بأكثر من ثلاثة أيام فقط لقطف ما يزيد عن 30 شجرة زيتون. وفي إمكان إيمان أن تصطحب معها ثلاثة أشخاص فقط، قد يوافق أو يرفض ضباط الإدارة المدنية الإسرائيلية دخولهم إلى الأرض، حيث تكثر الأشواك والنباتات الضارة حول الأشجار المحاصرة. فالاحتلال لا يمنع إيمان من قطف الزيتون بدون تنسيقٍ معه فحسب، بل من حراثة الأرض وتنظيفها من تلك النباتات، الأمر الذي يعرقل عملية قطف الزيتون.
وفي كلّ صباح من تلك الأيام الثلاثة، تنتظر إيمان تحت البرج العسكري نزول أحد جنود الاحتلال ليعطيها موافقة على دخول أرضها على الرغم من أنّها تحمل ورقة تنسيق مسبق بالدخول. فتقول لـ”العربي الجديد: “مش حرام هيذ (هكذا) يعملوا فينا (بنا)؟ إطّلعي (انظري) ع أرظي (إلى أرضي) شوفي (شاهدي) الشجر”، وتطيل النظر إلى أشجارها من خلف السياج الذي يخنقها منذ سنوات، بحرقة قلب كبيرة.
ما إن تصل إيمان إلى أرضها، تفرش الأرض بسرعة وتشرع بقطف زيتونها على عجل، فهي لا تملك إلا ساعات لإنجاز مهمّتها، فيما ترفض تناول أيّ طعامٍ أو شراب. ولا تخفي إحساسها العميق بالحسرة على ثمار الزيتون التي لا تستطيع قطفها كلّها في خلال الوقت المسموح لها. وتعلّق: “مش حرام أترك أرظي (أرضي) وأترك الزتون (الزيتون) بدون قطف؟ هذه الأشجار مثل أولادي، ربّيتها وتعبت عليها من أوّل وجديد (مجدداً)، بعدما حرقوهن (أحرقوها) المستوطنون في الانتفاضة الثانية سنة 2002”.
وحيدة هي إيمان كما هي أشجارها، فهي لم تنجب أولاداً، ولم يتبقَّ لديها سوى شقيقتَين، إحداهما مريضة وأخرى تقيم في خارج فلسطين. وتخبر أنّه “في مرّة، أراد ابن واحدة من شقيقتَيّ مساعدتي، لكنّ جنود الاحتلال كادوا يقتلونه. هم يخشون دخول الرجال إلى المنطقة بزعم أنّهم قد يحاولون طعن الجنود أو إلحاق الضرر بممتلكات مستوطنة بيت إيل ومقرّ الإدارة المدنية الإسرائيلية”.
وعندما يعلو أذان الظهر، تؤدّي إيمان صلاتها على أرضها المحاصرة، فيظنّ المرء للحظة أنّ وجهها الذي أرهقه الزمن يعانق تراب الأرض التي تحلم بزيارتها يوماً ما من دون إذنٍ من أحد. وتدعو أن تتحرّر أرضها من قبضة الاحتلال، وأن تختفي المستوطنة والحاجز ومقرّ الإدارة المدنية، وتردّد “يا رب تكتب لأرظي (أرضي) تتحرّر.. الله يحرّرها”.
في اليوم الثالث والأخير من القطاف هذا العام، أصرّت امرأة فلسطينية فضّلت عدم الكشف عن هويتها، على مرافقة إيمان ومساعدتها في قطف الزيتون. بالتالي، زاد عدد الأشخاص المسموح لهم بالدخول. أصرّت المرأة على ذلك، فنجحت بالدخول إلى جانب أربع نساء أخريات (غير الثلاث) إنّما بعد انتظار طويل على الحاجز العسكري. وفيما راحت الثماني يساعدن إيمان، صدح صوت آمر في المكان: “الكلّ لعندي. ما حد يمسك إشي باليد”. كان هذا صوت ضابط في الإدارة المدنية الإسرائيلية صوّب سلاحه في اتجاه المواطنات الفلسطينيات الثماني وكذلك صاحبة الأرض. وراح الضابط يهدّد إحدى المواطنات بالضرب، لكنّه انصرف بمجرّد أن أعلمه الجنود الذين هرعوا من الحاجز، بأنّ الدخول تمّ بإجراءات وصفوها بـ”القانونية”. يُذكر أنّ في الأرض المحاصرة نفسها، ثلاث أشجار تين قريبة من أشجار الزيتون، غير أنّ إيمان لم تذق طعم ثمارها منذ أعوام طويلة، فالاحتلال لا يسمح لها بذلك.
العربي الجديد