شرفة

مغزى التراجع عن رفض استلام أموال المقاصة

كتب هاني المصري: وافقت السلطة على استلام مليار و800 مليون شيكل من أموال المقاصة من دون أن تتراجع إسرائيل عن خصم مخصصات عائلات الشهداء والأسرى، على أن تستأنف اللجان الفنية عملها للاتفاق على استرداد بقية الأموال بعد الخصومات الإسرائيلية المتعلقة بفواتير الصحة والكهرباء والماء والعملاء … إلخ.

ماذا عدا عما بدا، حتى تغيّر السلطة موقفها بشكل جذري، وتقبل استلام الأموال مع استمرار القرصنة، رغم قول الرئيس محمود عباس، مرارًا وتكرارًا، بأنه لن يستلم الأموال ناقصة، ولو قرشًا واحدًا.

كنت ممن عارضوا القرار منذ البداية، وأوصيت بأخذ بقية الأموال الفلسطينية، وملاحقة إسرائيل على كل المستويات على قرصنتها، وذلك على خلفية تقدير مبني على معطيات بأن حسابات السلطة عندما اتخذت القرار كانت خاطئة ورهاناتها خاسرة.

لو كان عدم استلام أموال المقاصة جزءًا من إستراتيجية جديدة تهدف إلى التخلص من الالتزامات السياسية والاقتصادية والأمنية المترتبة على الفلسطينيين بموجب اتفاق أوسلو، لكان يمكن تفهمه، مع أنه من المفترض أن تسبقه تحضيرات استباقية تحتوي تداعياته، ولكن هذا لم يحصل، لأن اتخاذ القرار مجرد تكتيك يهدف إلى تحسين شروط السلطة في علاقتها مع الاحتلال على أرضية استمرار الإستراتيجية المعتمدة، مع التهديد اللفظي باعتماد إستراتيجية جديدة، أي أنّ عدم استلام الأموال منقوصة جاء مجرد ردة فعل، وللاستهلاك الشعبي وكسب الوقت، وناجم عن رهانات خاسرة.

قادت الحسابات الخاطئة والرهانات الخاسرة إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية بمعدلات كبيرة هددت السلطة بالانهيار أو بانفجارات شعبية. فالسلطة راهنت على أن الأمن الإسرائيلي سيقنع الحكومة الإسرائيلية بإعادة الأموال كاملة، لأن عدم إعادتها سيؤدي إلى انهيار السلطة، التي يشكل استمرارها مصلحة إسرائيلية.

كما راهنت على الحكومة الإسرائيلية التي كان من المفترض أن تشكل بعد الانتخابات التي جرت في نيسان الماضي، وخصوصًا إذا فاز حزب “أزرق أبيض”، لذلك أعلنت السلطة أن أزمة المقاصة ستجد حلًا في شهر حزيران الماضي، غير أن حسابات البيدر جاءت خلافًا لحسابات الحقل، إذ لم تكن نتائج الانتخابات محسومة لصالح طرف، وخاضت إسرائيل انتخابات ثانية.

وتكرر الرهان الخاسر مرة أخرى بعد الانتخابات التي جرت في أيلول الماضي، التي لم تحسم لصالح طرف، وحتى الآن ليس من الواضح هل ستشكل حكومة إسرائيلية واسعة أم ضيقة أم لا، ومن الذي سيرأسها: بنيامين نتنياهو، أم بيني غانتس، أم ستُجرى انتخابات ثالثة؟ وهذا يعني أن أزمة أموال المقاصة لن تحل، ما يجعل استمرار الرهان على ما ستقوم به الحكومة القادمة خاسرًا لا محالة .

وما يؤكد ذلك أن القرار الإسرائيلي بخصم الأموال يستند إلى قانون أقره الكنيست، ولم يشمل القانون البند الذي طلب نتنياهو إضافته، والذي يمنح “الكابينت” الصلاحية بعدم تطبيق القانون فعليًا إذا توفرت أسباب أمنية أو غيرها تحول دون ذلك؛ ما يعني أن عدم تطبيقه بحاجة إلى تعديله عبر الكنيست، ولا أعتقد أن أي خبير في الشؤون الإسرائيلية يستطيع أن يتوقع ويرجح بأن الكنيست القادم الذي معظم أعضائه سيكونون حتمًا من اليمين والمتطرفين العنصريين سيقوم بتعديل القرار.

كما راهنت السلطة على شبكة الأمان العربية مع أنها حصدت خيبة الأمل من هذا الرهان منذ إقرارها في القمم العربية منذ سنوات طويلة، وخصوصًا أن الدول العربية القادرة على الدفع غارقة في الحرب اليمنية التي تكلفها أموالًا طائلة، ومستنزفة في الرهان على الأميركيين والإسرائيليين، على أمل أن يحاربوا إيران التي غدت عندهم الخطر الرئيسي.

الرهان على الشعب بمختلف فئاته هو الوحيد الذي كان صائبًا، وخصوصًا الموظفين الذين عانوا وصمدوا، والبنوك التي قدمت الحد الأقصى من القروض للسلطة.

لم يمنع الصمود أن معاناة الشعب المادية والمعنوية من تفاقم الأزمة الاقتصادية القائمة أصلًا بعد أزمة المقاصة كانت كبيرة جدًا، ولا بد من معالجة آثارها. فهناك خسائر مستردة متمثلة في الاقتطاعات من رواتب الموظفين وقروض البنوك، وخسائر مفقودة تجلت في مرضى لا يوجد علاج لهم في المستشفيات الفلسطينية، ولم يتم تحويلهم بسبب الأزمة المالية، وأفراد ومؤسسات وشركات أفلست، أو استدانت بفوائد بنكية أو من الصرافين، وعمال وموظفين سُرِّحوا من عملهم، إلى جانب جمود اقتصادي أضعف الثقة بالاستثمار بفلسطين، وأضر بمصداقية السلطة، ووضع علامات سؤال على مستقبلها.

لم يتحقق الرهان، وقررت السلطة التراجع عن قرارها باستلام الأموال منقوصة، وهذا أمر أفضل من استمرار القرار الخاطئ ما دام لا توجد نية لتغيير المسار، ما يعني أن الاستمرار بنفس الموقف سيفاقم الأزمة الاقتصادية بما يؤدي إلى تداعيات وخيمة، خصوصًا بعد اتضاح أن القرصنة الإسرائيلية لا تتعلق بالانتخابات، وإنما تعبر عن توجه إسرائيلي عام يندرج في سياق تنفيذ المخطط بإعادة صياغة السلطة للمرة الثالثة (الأولى منذ تأسيسها وحتى العام 2004، والثانية منذ تولي الرئيس محمود عباس وحتى مجيء الرئيس دونالد ترامب، والثالثة بدأت منذ ذلك التاريخ ولا تزال مستمرة) لتناسب “صفقة ترامب”، الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية، والتي لا تتسع لدولة فلسطينية، وإنما لاستمرار سلطة الحكم الذاتي كحل نهائي، ما يعني أن على السلطة والمنظمة الكف عن المطالبة باستئناف المفاوضات للاتفاق على الحل النهائي بالنسبة للقضايا الأساسية المتفق عليها في اتفاق أوسلو.

كان بمقدور السلطة أن تقول “لقد أخطأنا وجل من لا يخطئ، والتراجع عن الخطأ فضيلة”، وهذا كان يمكن أن يبشر بالخير، خصوصًا بعد ثبات أن الحسابات كانت خاطئة والرهانات خاسرة، أما أن تصور تراجعها عن موقفها باعتباره انتصارًا، وأن استئناف عمل اللجان الفنية باعتباره موافقة إسرائيلية على فتح بروتوكول باريس الاقتصادي للتعديل، فهذا تضليل وإمعان في الخطأ، لأن القيادة والسلطة لو استجابت لقرارات المجلسين الوطني والمركزي، لكان من المفترض أنها اعتمدت إستراتيحية الانفكاك فعلًا عن الاقتصاد الإسرائيلي، وهو قرار سياسي أولًا وليس اقتصاديًا. فكيف يمكن أن يحدث ذلك مع مع عدم تنفيذ القرارات المتخذة منذ آذار 2015، والمتعلقة بوقف العمل بالاتفاقيات، بما فيها التنسيق الأمني؟

لو بدأنا فعلًا بتغيير المسار منذ انهيار قمة “كامب ديفيد” في العام 2000، أو تنفيذ ما قرره المجلس المركزي في العام 2015، وبنينا البديل على الأرض خطوة خطوة، ومدماكًا مدماكًا، لكانت الأمور مختلفة عما عليه الآن.

وحتى يحدث ذلك، ولا بد أن يحدث عاجلًا أم آجلًا، لا بد أن يكون في سياق إعادة الاعتبار للمشروع الوطني، وإعطاء الأولوية لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة على أسس وطنية وديمقراطية توافقية وشراكة حقيقية، والاتفاق على إنهاء سيطرة حركة حماس على قطاع غزة، وهيمنة الرئيس وحركة فتح على السلطة والمنظمة، وتنظيم سلاح المقاومة، ليكون خاضعًا للإستراتيجية الموحدة والقيادة الواحدة، وإعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير لتضم مختلف القوى.

وأخيرًا، هناك نقطة في منتهى الأهمية تتعلق بآلية اتخاذ القرار الفلسطيني، إذ اتخذ قرار الامتناع عن استلام أموال المقاصة، مثل التراجع عنه، ومثل بقية القرارات الفلسطينية بالإجمال، بشكل فردي وارتجالي، وكردة فعل من دون دراسة، ولا الرجوع إلى الخبراء والاحتكام إلى المؤسسات، سواء مؤسسات المنظمة أم السلطة (الحكومة). فالرئيس هو الذي يقرر بعد الاستماع أو من دونه إلى نصائح وتوصيات وضغوط من بعض الأشخاص ومراكز القوى.

لقد غابت المؤسسات الفلسطينية، سواء بحلها مثل المجلس التشريعي، أو بتفريغها من مضمونها مثل مؤسسات المنظمة والحكومة، وبوضع كل السلطات والصلاحيات بيد الرئيس. ومن دون إعادة الاعتبار للمؤسسات وتطويرها عما كانت به بشكل جذري، والاحتكام إلى الشعب عبر صناديق الاقتراع وتجسيد الديمقراطية التوافقية؛ لا يمكن النهوض بالوضع الفلسطيني، وتحمل المسؤولية، وتقسيم العمل، وتجسيد العمل الجماعي القادر على جمع مختلف الكفاءات والطاقات والإبداعات، وإجراء المراجعة الدائمة، وأخذ الدروس والعبر من التجارب السابقة، إضافة إلى المساءلة والمحاسبة والتقييم المستمر والتخطيط للمستقبل على أسس علمية ووطنية.

السؤال الأساسي الذي لا يزال مطروحًا ولا مهرب من الإجابة عنه:

هل ليس بالإمكان أبدع مما كان، وأن أقصى الممكن إعادة إنتاج أوسلو والبقاء تحت سقفه، أم أن هناك ضرورة وإمكانية لتغيير المسار جوهريًا، وفتح الآفاق لتحقيق أماني الشعب الفلسطيني وطموحاته ومصالحه وأهدافه، والإجابة عن هذا السؤال هي التي تحدد إلى أين نسير: إلى جهنم، أم إلى جنات النعيم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى